العنوان مع المسيرة
الكاتب مصطفى الخولي
تاريخ النشر الثلاثاء 22-أبريل-1975
مشاهدات 46
نشر في العدد 246
نشر في الصفحة 37
الثلاثاء 22-أبريل-1975
هبط عادل درج بيته ليلتقي بأخيه في الله «سعد صالح» وكان سعد يسكن المنزل المقابل، وبينهما موعد يومي يلتقيان فيه مع أذان العصر، لم يكن سعد قد هبط الشارع بعد؛ فنظر عادل حوله يتأمل المنازل الصغيرة المستقيمة في صفين متقابلين من طابق وطابقين، لا رغد عيش هنا، إنما الكفاف أو ما يشبه الكفاف، والأطفال يلعبون في الشارع الترابي متسخي الأيدي والأرجل، حفاة وشبه عراة، والبيوت خالية من رجالها فالبلدة الصغيرة على بحيرة المنزلة، بلدة صيد السمك الشهيرة «المطرية» وأهلها يعرفون بور سعيد والإسماعيلية والسويس كل المعرفة، فالبحيرة والصيد منفذان إلى المنطقة كلها.. واندفع سعد إلى الشارع للقاء أخيه، وتبادلا تحية الإسلام.
- لك السبق اليوم إلى اللقاء يا عادل مثل كل يوم.
- أينا يسرع إلى الخير فهو خير.
- تعني أنك فزت بالكثير من الخير يا عادل، فأنت تسبق دائمًا.
- هو خير لنا معًا يا سعد إن شاء الله.
- بالطبع سمعت الأخبار.
واقتربا من المسجد الخشبي الصغير على شاطئ البحيرة فصمت سعد وكان إلى اليمين فتقدم وتبعه عادل. وبعد أن قضيت الصلاة بدأ المشوار اليومي إلى «الشعبة» حيث اللقاء مع الإخوة ثم العودة بعد ذلك إلى الواجبات المدرسية.
- ها هي مصر تلغي معاهدة ٣٦
- وماذا بعد يا سعد؟!
- لا تريد أن تفهم.. أصبح وجود الإنجليز في منطقة القناة غير شرعي.
- ومتي كان وجودهم شرعيًّا؟!
- يا أخي.. سم الأشياء بمسمياتها.. كان وجودهم شرعيًّا قبل إلغاء المعاهدة من وجهة النظر الدولية على الأقل.
- رحم الله الإمام الشهيد، أذكر قوله «أخرجوا الإنجليز من نفوسكم يخرجوا من أرضكم».
- صدقت.. هذه الكلمة وها هي تتحقق ..ها نحن نخرج الإنجليز من نفوسنا.
- بدأنا فقط، وأرجو الله أن يكون اتجاهنا إلى الخير.
- هو الخير- إن شاء الله.
وألح على عادل سؤال: لماذا أقدمت الحكومة أخيرًا على إلغاء المعاهدة وطالما سوفت وماطلت. وتذكر إحدى الحوادث القريبة على مسرح الأحداث في القاهرة وكانت إحدى المجابهات بين الشعب والحكومة، فقد خرج طلبة الجامعة في مظاهرة كبيرة واتجهوا إلى مبنى وزارة الخارجية بالقرب من كوبري قصر النيل وخرج إلى الشرفة وزير الخارجية «صلاح الدين» وارتفع الهتاف الصاخب «الجلاء يا صلاح». كم من الرؤوس ارتفعت على أرضك يا مصر وأعطاها الشعب الفرصة بعد الفرصة وصبر عليها فتاهت وضلت وتهاوت تحت الأقدام.
ها هي المعاهدة تلغى كما تقول يا سعد، وعلى كراسي الحكم رجال أو أشباه رجال، هل يرتفعون إلى مستوى المسئولية ويثبتون أنهم جديرون بقيادة الأمة..
وتفاعلت الأمور بشكل حاد وسريع.. بدت الصحف تعكس يقظة الشعب ومطالبه الخاصة بمجابهة الإنجليز، وفوجئت الحكومة بأن الشعب يدفعها إلى عمل شيء، ولم يكن لديها شيء تفعله ولم تكن لتستطيع وإن أرادت.. هل ألغيت المعاهدة بعد دراسة وتنسيق مع الإنجليز أنفسهم أو مع أمريكا- هل كانت مقدمة خطة أو مجرد صدفة لكشف الشعب وقدراته ثم استدراج العناصر الطيبة والخيرة فيه وضربها بشكل ما.. بوسيلة ما.. كم من الدراسات قام بها مبعوثون من الغرب ومن أمريكا بالذات عن جماعة «الإخوان المسلمين» وفعاليتها وإمكاناتها وتأثيرها في الناس وتحريكها لهم.. دقت الأجراس هناك بالنذر عندما اكتسح الإخوان انتخابات الشباب الجامعي.. وكان هذا قدر شباب الإخوان أن يتقدموا مسيرة الشعب عبر الأيام الحاسمة.
همس أحد الإخوان في أذن عادل بعد صلاة العشاء «هيا بنا إلى الشعبة هناك بعض الإخوة الضيوف ستسعد بلقائهم».
كم من لقاء سعد به عادل، فلقاءات الإخوان كثيرة، وهم دائبو الحركة والنشاط.. زيارات متبادلة ورحلات ومعسكرات.. ولكن لقاء تلك الليلة لم يسبقه لقاء مثله.. عاشه عادل وعاش مع عادل كل السنين والشهور والأيام.. تخرج الكلمات من الشفاه وتظل حية.. والخلجات ندية.. وومضات العيون تنطلق كأنها طير الجنة.. وضياء قدس يعلو الوجوه.. مجموعة.. بل باقة من زهر الإسلام المتجدد دومًا.. من جامعة القاهرة.. عائدين لتوهم من معركة التل الكبير على بعد من الإسماعيلية.. جلوس مع إخوان المطرية معهم سلاحهم وقد نفذت ذخيرتهم في الميدان.. یروون أحداث المعركة.
وضعت الخطة لتدمير مستودع الذخيرة في المعسكر واستدراج قوة للعدو إلى الخارج، وكان المعسكر بالقرب من جسر صغير على ترعة الإسماعيلية وقبالة الجسر من الناحية الأخرى بناية مدرسة.. أربعة لاقتحام المعسكر وزرع العبوات الناسفة في المستودع، أربعة فوق الجسر لتغطية انسحاب قوة الزرع ومهاجمة القوة المعادية التي تخرج من المعسكر ثم.. «عمر شاهين» الذي وضع الخطة بكل تفصيلاتها والذي اختار لنفسه أن يكون موقعه في بناية المدرسة يغطي انسحاب مجموعة الجسر بمدفعه «البرن» وكان عمر يتولى القيادة وهو الذي يعطي إشارات البدء.
الشمس في منتصف السماء، واليوم من بدايات الصيف وكل شيء هادئ وراكد إلا من حركة فلاح على بعير أو عربة تعبر الجسر وفجأة دوت الانفجارات متلاحقة ومتداخلة مع صيحات ألم واستغاثة وتحذير وضيق وغيظ.. تخطى الرجال مراكز المراقبة وأحدثوا ثغرة في الأسلاك الشائكة نفذوا منها إلى قلب المعسكر، وزرعت العبوات الناسفة وفجرت واندلعت ألسنة النار خاطفة إلى أعلى حمراء وخضراء وصفراء وبنية.. مع دوي الانفجارات
اندفع جند الاحتلال إلى الخارج يطلقون النار في كل اتجاه فقابلتهم النار من صوب الجسر فتراجعوا في ذعر يحتمون بالمعسكر ليعودوا بعد ثوان خلف إحدى الدروع المجنزرة تهدر أمامهم متجهة إلى الجسر وترمي بقذائفها فانسحبت مجموعة الجسر تاركة لعمر مهمة التعامل معها بمدفعه «البرن» وكان على عمر أن ينسحب هو الآخر والمجنزرة على بعد منه ولكنه لم يفعل- ترك مدفعه وهبط إلى فناء المدرسة وكمن بجوار السور وأخذ يصغي إلى صوت المجنزرة يهدر ويزداد ضجيج هديره.. وذهب بأفكاره إلى القاهرة وهو يودع أهله ويأخذ عدته.. وقفت أمه وأخته نعيمة وابنة عمته وخطيبته سمية.. امتدت يد نعيمة مع يد سمية إلى كتاب الله.. واشتركتا في تقديم القرآن إليه.. وابتسم عمر وفهم أن كانت هناك معركة صغيرة بين الفتاتين أيهما يقدم کتاب الله إليه يحمله معه قبل رحيله... واتفقتا أن تتقدما به معًا.. واحتبست الكلمات في صدر الأم وتحدثت إليه عيناها حديثًا طويلًا..
أماه اصبري.. ما الموت في سبيل الله سوى الخلود للحياة.. أي نعيمة كفكفي الدمع.. تشجعي يا سمية.. ما الحياة الدنيوية سوى عشية...
تأكد أن المجنزرة على بعد أمتار قليلة فوثب فوق السور وألقى بثلاث قنابل يدوية تتابعت في سرعة خاطفة، أعطبت المجنزرة وأصابت بعض أفراد القوة المحتمية بها. وأصيب عمر بعد أن انطلقت من يده القنبلة الثالثة وابتسم في رضى وقناعة وهو يعانق الأبدية ويخلد للخلود..
شعر عادل بأحد الإخوة يأتي ويقف إلى جواره فنظر فإذا هو سعد صالح همس عادل:
- ألا تجلس يا سعد!
- سبقتني إلى هذا اللقاء.. لم تخبرني به- سامحك الله..
- ما صليت العشاء معي..
- فاتني خير كثير.
- بالله اجلس وانصت.
... عندما أخذت قوة الجسر في الانسحاب لوح فهد تجاه بناية المدرسة؛ إشارة لعمر ليلحق بهم، مرت المجموعة الصغيرة بالمدرسة ودخلت حقل الذرة خلفها وعند بداية الحقل قال فهد: سأنتظر عمر هنا، وتوقفت المجموعة ثوانٍ تنظر إليه في دهشة فقال: ما بالكم... هيا بأسرع ما يمكن.. خارج نطاق القرية.. بعيدًا عن المنطقة كلها وسوف ألحق بكم مع عمر. وتقدمت المجموعة تنفذ الأمر الصادر إليها من قائدها وتخلفه وراءها وسط الخطر..
انتظر فهد ثوانٍ بعد ثوان يهفو سمعه إلى خطو عمر.. ولم يأت عمر...
لحقت بالقوة الإنجليزية المشتركة في المعركة قوات أخرى من المعسكر، وتقدم الجنود في اتجاهين يطوقون مسرح العملية وامتداده إلى الغرب، يطلقون النار في جنون عبر المنطقة كلها وبين أعواد الذرة لا يأبهون أين تذهب أو من تصيب الطلقات تعوي مارة بفهد يكاد بعضها يلامس جزءًا من جسمه، فوق شعره أو جوار أذنه، أمام صدره أو من بين ذراعه وجنبه وهو يمضي غربًا بين الأعواد إلى الطرف الآخر من الحقل.. خيل إليه أن لا نهاية لامتداد الحقل وبدأ التعب يدب في قدميه وساقيه وأحس برغبة شديدة أن يلقي بجسمه إلى الأرض.. ومد يديه إلى أزرار قميصه يفكها الواحد بعد الآخر وهو يعدو ولم يسأل نفسه: لماذا يخلع قميصه؟ خيل إليه أن الذي يخلع قمیصه شخص آخر غير فهد، سحب القميص من ذراعيه ومد به يده من خلفه ورماه كأنه كسرة خبز يرمى بها لكلب يركض في أثره.. وبعد بضع خطوات أخرى مد يديه إلى الأرض وألقى بنفسه في رفق بين أعواد الذرة والطلقات ما زالت تمزق الهواء حوله وتبتر جزيئات صغيرة من الأعواد والثمار والأوراق.. عواء وأنين وفحيح وصفير..
وضع فهد يده تحت رأسه ونظر إلى الأعواد النابضة بالحياة الشامخة في استقامة وورقها الطويل الرقيق ينحني إلى الأرض فوق الثمار في تواضع خاشع لله رب كل شيء.. وتجمعت كل طمأنينة الإيمان وسكينة الإسلام في قلب فهد: ربي آمنت بك وأسلمت وجهي إليك..
صمتت أفواه البنادق.. وبعد ثوان أدرك فهد أن العدو أحكم حصار القرية والمنطقة المجاورة.. ولكنه يعرف أن الإخوان خرجوا الآن إلى مأمن بعيد عن أيدي العدو.. لكم الله يا أهل القرية.. جاء دوركم لتأخذوا بنصيب في حركة الجهاد، وتناهت إلى أذنه حركة البحث في المنازل وبكاء الصبية.. ها هي أصوات نعال الإنجليز يسمعها بوضوح وهو في مرقده.. ويسمع الآن أحد الناس بين الأعواد يقترب منه.. کاد فهد يقفز واقفًا على قدميه «هل هو عمر!..» ورأى أول ما رأي لونًا أحمر فوق الخضرة.. هو إذن أحد جنود الاحتلال بغطاء الرأس الأحمر كأنه علم على شيطان أراد أن يظهر شجاعته فجاس خلال الأعواد الجندي.. يمسك بقميصه وينظر إليه بإمعان ثم يمزقه في غيظ.. يمزقه إربًا إربًا ويرمي بها.. لو نظر من بين الأعواد لرآني... شاهت الوجوه والأبصار.. ومضى الشيطان بعيدًا يحمل الغيظ والخيبة...
وكان هناك أحد الصحفيين المصريين من الذين يدعون أنهم لمصر ولا شيء غير مصر. جاء إلى القرية يبغي مادة مثيرة لصحيفته فوجد نفسه وسط المعركة، وعندما واجه الضابط الإنجليزي أبرز له البطاقة الصحفية التي يحملها فكان نصيبه بضع ركلات وصفعات.. وأخذ الإنجليز في الانسحاب إلى معسكرهم وهـم يطلقون النار في الهواء وعبر حقل الذرة مر أخرى.
وهرول بضع رجال إلى ميدان المعركة أمام بناية المدرسة وهرول خلفهم صحفي القاهرة.. وكان هناك «عمر» على الثرى.. ووقف الصحفي ينظر إليه ثم يرمي بصره إلى الجسر ومن الجسر إلى المعسكر ثم إلى جسد عمر.. وتراجع الصحفي إلى جدار المدرسة، أخرج ورقه وقلمه وجلس على التراب وأسند ظهره إلى الجدار وأخذ يكتب وأحد تلاميذ القرية في الرابعة عشرة يقف إلى جواره يقرأ ما يكتب..
«إن الحرية.. حرية مصر وشعبها وترابها ودينها وسمائها تزهو الآن بكبريائها في أعماقي وأعماق كل مصري.. فشباب مصر يضرب اليوم أروع مثال للرجولة والفداء والتضحية.. وأن يجود الإنسان بنفسه بروحه بدنياه كلها وأحلامه في سبيل كرامته وعزته وآبائه ويكون راضيًا قرير العين بعطائه هو عمل مجيد حقًّا لمصر أن تفخر به وتهنأ وترنو إلى المستقبل في ثقة واطمئنان...» وأخذ الكاتب يسرع في سطر الكلمات وكتب أشياء عن حورس وأوزوريس وقدس الأقداس لم يتبينها التلميذ ولم يفهمها وقال التلميذ في نفسه: غدًا يقرأ الناس هذا الكلام ويعجبون به وربما يشتعلون حماسة ولكنه لا يروق لي فأنا أعرف نوعية البطل الذي يحمل الآن على أكف الرجال وأعرف مكونات فكره ومنطلقاته...
كان الرجال والنسوة أمام الدور في خط به انحناءة عند الطرف الآخر من القرية وسرت رعدة همهمة من أول القرية.. الجسد الطاهر قادم.. الجسد الطاهر في رداء أبيض كالنور... وسبحت الشفاه: اللهم أنت السلام ومنك السلام وإليك يعود السلام.. ها قد آب قلبي إليك..
سجودي إليك
ندائي إليك
دعائي إليك
حناني إليك
صباي إليك
شبابي إليك
وشيبي إليك
مجيئي إليك
ذهابي إليك
إليك.. إليك
طريق القدوم
طريق الإياب
لا النصب..
ولا كل حفنات التراب
تنال منك يا عمر ..
واغرورقت كل العيون بالدموع .
مصطفى الخولي
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل