العنوان مفاهيم إسلامية - بيان حاجة الناس إلى الشريعة
الكاتب جمال الصالح
تاريخ النشر الثلاثاء 06-سبتمبر-1977
مشاهدات 17
نشر في العدد 366
نشر في الصفحة 24
الثلاثاء 06-سبتمبر-1977
صفحة للقراء
مفاهيم إسلامية
«بيان حاجة الناس إلى الشريعة»
للإمام ابن القيم
إعداد: جمال الصالح
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد، وعلى أله وصحبه أجمعين.
أخي القارئ.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: من كتاب «مفتاح دار السعادة» للإمام ابن القيم اخترنا لك اليوم فصلاً من فصوله اللذيذة التي تبين بأسلوب جميل مقنع حاجتنا كمسلمين إلى شريعتنا الإسلامية لما فيها من فوائد لنا في ديننا ودنيانا، فتعال معنا في صفحة القراء هذه لنعيش لحظات أو دقائق مع الإمام ابن القيم ليبين لنا هذا الموضوع بأسلوبه الجميل الشيق الجذاب.
حاجة الناس إلى الشريعة ضرورية فوق حاجتهم إلى كل شيء ولا نسبة لحاجتهم إلى علم الطب إليها، ألا ترى أن أكثر العالم يعيشون بغير حليب ولا يكون الطبيب إلا في بعض المدن الجامعة، وأما أهل البدو كلهم وأهل الكفور وعامة بني آدم فلا يحتاجون إلى طبيب وهم أصح أبدانًا وأقوى طبيعة ممن هو متقيد بالطبيب ولعل أعمارهم متقاربة.
وقد فطر الله بني آدم على تناول ما ينفعهم واجتناب ما يضرهم وجعل لكل قوم عادةً وعرفًا في استخراج ما يهجم عليهم من الأدواء، حتى إن كثيرًا من أصول الطب إنما أخذت عن عوائد الناس وعرفهم وتجاربهم، أما الشريعة فمبناها على تعريف مواقع رضى الله وسخطه في حركات العباد الاختيارية فمبناها على الوحي المحض والحاجة إلى التنفس فضلا عن الطعام والشراب؛ لأن غاية ما يقدر في عدم التنفس والطعام والشراب موت البدن، وتعطل الروح عنه، وأما ما يقدر عند عدم الشريعة ففساد الروح والقلب جملة وهلاك الأبدان، فليس الناس قط إلى شيء أحوج منهم إلى معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والقيام به والدعوة إليه والصبر عليه وجهاد من خرج عنه حتى يرجع إليه، وليس للعالم صلاح بدون ذلك البتة ولا سبيل إلى الوصول إلى السعادة والفوز الأكبر إلا بالعبور على هذا الجسم.
والشرائع كلها في أصولها وإن تباينت متفقة مرکوز حسنها في العقول ولو وقعت على غير ما هي عليه لخرجت عن الحكمة والمصلحة والرحمة بل من المحال أن تأتي بخلاف ما أتت به ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ﴾ (المؤمنون:71) وكيف يجوز ذو عقل أن ترد الشريعة أحكم الحاكمين بضد ما وردت به؛ فالصلاة قد وضعت على أكمل الوجوه وأحسنها التي يعبد بها الخالق ليأخذ كل نوع من أنواع جوارح الإنسان من نطق اللسان وعمل اليدين والرجلين والرأس وحواسه حظه من الحكمة في هذه العبادة العظيمة المقدار، مع أخذ الحواس الباطنة بحظها منها وقيام القلب بواجب عبوديته فيها؛ فهي مشتملة على الثناء والحمد والتمجيد والتسبيح والتكبير وشهادة الحق والقيام بين يدي الرب مقام العبد الذليل الخاضع المدبر المربوب، ثم التذلل له في هذا المقام والتضرع إليه بكلامه، ثم انحناء الظهر ذلا له وخشوعا واستكانة، ثم استواؤه قائما ليستعد لخضوع أكمل له من الخضوع الأول وهو السجود من قيام فيضع أشرف شيء فيه وهو وجهه على التراب خشوعًا لربه وخضوعا لعظمته وذلا لعزته قد انكسر له قلبه وذل له جسمه وخشعت له جوارحه، ثم يستوي قاعدا يتضرع له ويتذلل بين يديه ويسأله من فضله ثم يعود إلى حاله من الذل والخشوع والاستكانة، فلا يزال هذا دأبه حتى يقضي صلاته فيجلس عند إرادة الانصراف منها مثنيًا على ربه مسلّمًا على نبيه وعلى عباده ثم يصلي على رسوله ثم يسأل ربه من خيره وبره وفضله؛ فأي شيء بعد هذه العبادة من الحسن، وأي کمال وراء هذا الكمال وأي عبودية أشرف من هذه العبودية، فمن أجاز عقله أن ترد الشريعة بضدها من كل وجه في القول والعمل وأنه لا فرق في نفس الأمر بين هذه العبادة وبين ضدها من السخرية والسب والبطر وكشف العورة والبول على الساقين والضحك والصفير وأنواع المجون وأمثال ذلك فليعز عقله وليسأل الله أن يهبه عقلا سواه.
وأما الصوم فناهيك به من عبادة تكف النفس من شهواتها وتخرجها عن شبه البهائم إلى شبه الملائكة المقربين، فإن النفس إذا خليت ودواعي شهواتها التحقت بعالم البهائم فإذا كفت شهواتها لله ضيقت مجاري الشيطان وصارت قريبة من الله بترك عاداتها وشهواتها محبة له وإيثارًا لمرضاته وتقربًا إليه؛ فالصوم، عبادة لا تتصور حقيقتها إلا بترك الشهوة الله فالصائم يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجل ربه، وهذا معنى كون الصوم له تبارك و تعالى؛ فأي حسن يزيد على حسن هذه العبادة التي تكسر الشهوة وتقمع النفس وتحيي القلب وتفرحه وتزهد في الدنيا وشهواتها وترغب فيما عند الله وتذكر الأغنياء بشأن المساكين وأحوالهم وأنهم قد أخذوا بنصيب من عيشهم فتعطف قلوبهم عليهم ويعلمون ما هم فيه من نعم الله فيزدادوا له شكرا، وبالجملة فعون الصوم على تقوى الله أمر مشهور ما استعان أحد على تقوى الله وحفظ حدوده واجتناب محارمه بمثل الصوم فهو شاهد لمن شرعه وأمر به بأنه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين.
وأما الجهاد فناهيك به من عبادة هي سنام العبادات وذروتها وهو المحك والدليل المفرق بين المحب والمدعي للمحبة؛ فالمحب قد بذل مهجته وماله لربه وإلهه متقربًا إليه ببذل أعز ما بحضرته، يود لو أن له بكل شعرة نفسًا يبذلها في حبه ومرضاته ويود أن لو قتل فيه ثم أحيى ثم قتل ثم أحيى ثم قتل فهو يفدي بنفسه حبيبه وعبده ورسوله ولسان حاله يقول:
يفديك بالنفس صب لو يكون له
أعز من نفسه شيء فداك به
فهو قد سلّم نفسه وماله لمشتريها، وعلم أنه لا سبيل إلى أخذ السلعة إلا ببذل ثمنها ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ (التوبة:111)؛ فأي حسن يزيد على حسن هذه العبادة، ولهذا ادخرها الله لأكمل الأنبياء وأكمل الأمم عقلا وتوحيدا ومحبة لله.
وأما الحج فشأن أخر لا يدركه إلا الحنفاء الذين ضربوا في المحبة بسهم، وشأنه أجل من أن تحيط به العبارة وهو خاصة هذا الدين الحنيف حتى قيل في قوله تعالى ﴿حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ﴾ (الحج:31) أي حجاجًا؛ فالحج هو خاصة الحنيفية ومعونة الصلاة وسر قول العبد لا إله الله، فإنه مؤسس على التوحيد المحض والمحبة الخالصة وهو استزارة المحبوب لأحبابه ودعوتهم إلى بيته ومحل كرامته ولهذا إذا دخلوا في هذه العبادة فشعارهم لبيك اللهم لبيك إجابة محب لدعوى حبيبه، ولهذا كان للتلبية موقع عند الله، وكلما أكثر العبد منها كان أحب إلى ربه وأحظى فهو لا يملك نفسه أن يقول لبيك لبيك حتى ينقطع نفسه.
وأما حسن الزكاة وما تضمنته من مواساة ذوي الحاجات والمسكنة والخلة من عباد الله الذين يعجزون عن إقامة نفوسهم ويخاف عليهم التلف إذا خلاهم الأغنياء وأنفسهم، وما فيها من الرحمة والإحسان والبر والطهارة وإيثار أهل الإيثار والاتصاف بصفة الكرم والجود والفضل والخروج من سمات أهل الشح والبخل والدناءة فأمر لا يستريب عاقل في حسنه ومصلحته وأن الأمر به أحكم الحاكمين.
فتأمل هذا الموضع حق التأمل يطلعك على أسرار الشريعة ويشرفك على محاسنها وكمالها وبهجتها وجلالها، وأنه من الممتنع في حكمه أحكم الحاكمين أن ترد بخلاف ما وردت به، وأن الله يتنزه عن ذلك كما يتنزه عن سائر ما لا يليق به ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ (الأعراف:33).
والحمد لله رب العالمين.
مفتاح دار السعادة، الجزء الثاني ص 1- 11
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل