; مفهومات خاطئة 4 | مجلة المجتمع

العنوان مفهومات خاطئة 4

الكاتب الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق

تاريخ النشر الثلاثاء 16-يونيو-1970

مشاهدات 23

نشر في العدد 14

نشر في الصفحة 20

الثلاثاء 16-يونيو-1970

دعوات ما بعد الهزيمة!

عجز مؤرخو الغرب عن انتحال سبب مادي مقنع لغلبة المسلمين على أمم العالم أيام عز المسلمين ومجدهم. وذلك أن المسلمين كانوا أقل عددًا، وأضعف عدة -وهذا لا مراء فيه- وبالرغم من أن الجندي المسلم الذي نشأ في جزيرة العرب كان مقاتلًا ممتازًا شجاعًا، إلا أن العرب لم تكن لهم -في جاهليتهم- خبرة إدارة الجيوش الجرارة التي تقاتل الأمم، وإن كان المسلمون قد هضموا هذا النوع من الحرب سريعًا؛ فقد اتخذ خالد بن الوليد في معركة اليرموك نفس التخطيط الذي كان متبعًا لدى الروم في المعارك الكبيرة وبذلك انتصر جيش المسلمين وهو لا يتعدى ثلث جيش الروم، وذلك بفضل هذه الروح الوثابة التي تربط المسلم بربه وتجعله تواقًا لملاقاته حريصًا على الموت أكبر من حرص عدوه على الحياة. وعجزوا أيضًا عن معرفة سر بقاء الخلافة الإسلامية قوية مرهوبة هذه القرون المتطاولة مع أن غيرها من الدول لم يعمر على ذلك النمو من الاتساع والشمول والقوة كما عمرت.

الأخوة الإسلامية

وأخيرًا اهتدوا إلى أن سر ذلك عقيدة المسلمين وصلتهم بربهم وخالقهم، ولذلك وجهوا حربهم ضد هذه العقيدة، وقد اتخذت حربهم هذه صورًا وأنماطًا شتى. بدأت من التشكيك في هذه العقيدة وانتهت بصرفهم عنها بالتافه والحقير من الأمور. ولهذه التوافه التي شغل كثير من المسلمين بها أمثلة كثيرة لها مقال وتفصيل آخر.

والعقيدة الإسلامية لا أعني بها هنا صلة المسلم بربه وخالقه والذي يفهم من لوازمها إعانة الله -عز وجل- للمسلم وتوفيقه إياه ونصره له، وهذا لا جدال فيه عند مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر. وإنما أعني بها هنا آثارها المادية التي شاهد منها أولئك الأعداء العجب العجاب. فاجتماع المسلمين نحو هدف واحد، وسيرهم في تشريع واحد، وحملهم إيمانًا واحدًا عن الله والكون جعلهم في عصورهم السالفة -وما زال يجعل من مؤمنيهم اليوم- كالجسد الواحد الذي يفزع عندما يهاجم أي عضو فيه. فالشعور الأخوي الواحد الذي يخلقه الإيمان «العقيدة الإسلامية» يجعل المسلمين مثل البنيان المرصوص الذي تمسك كل لبنة فيه بزمام الأخرى فلا يستطاع هدمه إلا بعد جهد جهيد.

کیف هدم البناء الإسلامي؟

هذه الأخوة الإسلامية هي أعظم أثر مادي للعقيدة نراه ونحسه وهي الصخرة التي تفتتت عليها كل محاولات إخضاع الأمة والسيطرة عليها، ولذلك شرع الأعداء في تفتيت هذه الأمة، وضرب بعضها ببعض، ولقد بدأ هذا التفتيت منذ عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما زال إلى يومنا هذا، ولقد كانت أعظم هذه المحاولات في العصر الحديث هي فتنة ضرب الأتراك بالعرب، وضرب العرب بالأتراك التي أعقبها فصل الإسلام عن الحكم، ولست أبرئ الأتراك من أخطاء ارتكبوا في خلافتهم ولكن الأخطاء التي ارتكبها العرب بهذا الخروج المسلح كان أعظم شرًا وبلاءً، وذلك أن هذه الفتنة كانت إنجليزية المنشأ، ولذلك لم يستفد منها غير هؤلاء الأعداء أولًا وأخيرًا وما زلنا في جرائرها إلى اليوم والغد وحتى تعود شمس الخلافة من جديد!!

مظاهر الفتنة!!

ولقد كان من آثار هذه الفتنة دخول الغرب الكافر قلعة المسلمين الحصينة ولذلك استطاع أن يبذر -عن قرب- بذور الشقاق والخلاف وأن يشقق الأمة كما يريد، فنشأت الأحزاب السياسية وراء سراب ما يسمى بالديمقراطية، ونشأت طوائف المنتفعين بحكم الأجنبي الدخيل فكانوا بلاء على الأمة أشد من بلائها بالمستعمرين.

وكان من أشد هذه الثمار الخبيثة مرارة غرس اليهود في قلب وطن الأمة الإسلامية في فلسطين، وقد ساعد هذه النبتة الخبيثة على النمو ما صنعه الأعداء من فصل الدول الإسلامية بعضها عن بعض؛ فبالرغم من أن المسلمين كانوا في كل بلد يشعرون بالعداوة والبغضاء لليهود، وبالرثاء والحزن لما يتعرض له إخوانهم في فلسطين إلا أن المساعدة الفعلية منهم لأهل فلسطين كانت محدودة وتافهة لتلك الحواجز التي فصلت -وما زالت- بين جسم الدولة الإسلامية. وقد كان الجميع يشعرون أن حربهم ضد اليهود حرب إسلامية، الغاية منها رد المستضعفين من أهل فلسطين المسلمين إلى ديارهم وتخليصهم من الظلم الواقع عليهم لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى. وهل تعلو كلمة الله في الأرض بأن يعيش المسلم عزيزًا والكافر مهانًا ذليلًا!!

الشيوعيون وفلسطين

ولم يستطع أحد أن ينادي بغير ذلك- أعنى أن الحرب في فلسطين حرب إسلامية لإعلاء كلمة الله. إلا ما صنعته بعض الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية التي نادت بالصلح مع اليهود، وكان هذا بعد هزيمة العرب الأولى سنة ١٩٤٨. قيل هذا القول بعد أن سقط آلاف الشهداء من المسلمين على أرض فلسطين.

ثم بعد أن هبت تيارات القومية العربية عنيفة قوية بعد أن كانت لا تعدو أصواتًا نصرانية دفعها الفكر الأمريكي الذي قدم ليوطئ له أقدامًا في بلاد المسلمين ليكون خلفًا للإنجليز والفرنسيين والإيطاليين ابتدأ التحول الخطير في القضية الفلسطينية وذلك بالقول بأن قضية فلسطين قضية عربية تهم العرب وحدهم دون بقية مسلمي الأرض. ولقد علا هذا الصوت على كل صوت طيلة عشرين عامًا أو تزيد بما له من مد وأبواق. ولذلك خفت -قليلًا- صوت الإسلام الذي نادى من قبل بأن أرض فلسطين أرض إسلامية اغتصبها عدو كافر وأن سكان فلسطین مسلمون شردهم عدو ظالم ولا بد من تحرر هذه الأرض وتخليص هذا الشعب لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى. ولكن الهزيمة الساحقة والضياع الكامل الذي مُني به من نادوا بأن فلسطين عربية فقط أثبت لكل مبصر أن العرب وحدهم أعجز من أن يقاتلوا هذا العدو اللدود وذلك أن دعوة القومية العربية لا تعطي سندًا ودفعًا، وشعاراتها لا تعدو أن تكون ألفاظًا براقة تكاد أن تخلو من المعاني عند التمحيص والاختبار، وأن الأخوة في ظلها واهية ذاهبة!!

دعوات ما بعد الهزيمة

وبعد أن جربت القومية العربية حظها في فلسطين وثبت للجميع أنها أوهى من أن تكون عقيدة تجمع الناس وتؤلف بينهم وأضعف من أن تقدم لهم نظامًا للحياة يعيشون في ظله وأصغر من أن تعطي تابعيها مثلًا أعلى يجاهدون في سبيله، ارتفع صوت الإسلام الذي نادي بوجوب حمل السلاح وإعلان الجهاد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا على روابي فلسطين وليتخلص الشعب الفلسطيني المسلم من الذل والاضطهاد، وإن كانت هذه الدعوات ما زالت أقوالًا لم تدفع بعد إلى الواقع العملي.

وارتفع أيضًا صوت الشيوعية الذي ينادي بالتعايش الفلسطيني اليهودي أو ما يسمى بإقامة الدولة الديمقراطية الواحدة بعد الزعم بهدم كيان الدولة اليهودية.

والحق أن هذا الذي ينادي به الشيوعيون وأضرابهم متناسب مع ما يعتقدون من أخوة تحت النظام الشيوعي المستحيل التطبيق الذي يرونه نهاية لآمالهم، فلا غضاضة عند الشيوعي العربي أن يكافح في سبيل العيش -وهي الغاية عندهم- مع اليهودي الشيوعي، وأما المقدسات والتاريخ والإسلام فما هي في نظرهم إلا خرافات من صنع الأغنياء «البورجوازيين كما يسمونهم»، فهذه الدعوة التي ينادي بها الشيوعيون بشأن فلسطين ثمرة طبيعية للعقيدة التي يحملونها ويدينون بها، ولقد جر هذا الفكر الخبيث كثيرًا من ضعاف النفوس التي تربت على الحقد واللؤم والتي لا هَم لها في الحياة إلا لقمة العيش فهي منتهى الأمل عندهم ومحط الرحال، وهم آكلوها على أي وجه كانت. وهذا الفكر هو الفكر اليهودي نفسه الذي وصفه الله بقوله ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ﴾ (البقرة: 96).

أي حياة. وإن كان يتخلى فيها المرء عن تاريخه ودينه ومقدساته وشرفه أيضًا.

لماذا يرفض المسلمون هذا الشعار؟

والمسلمون إذا رفضوا هذا الشعار «الدولة الديمقراطية في فلسطين» فإنما يرفضونه لأنه متنافٍ كليًا مع ما يدينون به، وذلك للأسباب الآتية:-

أولًا:-

إنهم يعتقدون أن اليهود معتدون ومغتصبون قد أتوا إلى هذه الأرض مطالبين بملك قديم انتهت ملكيتهم له بعد إفسادهم في الأرض ﴿وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا﴾ (الإسراء: 4).

ثم أعادهم الله فأفسدوا فمزقهم في الأرض كل ممزق، وأما تمكين الله لهم في فلسطين الآن -وهم على كفرهم وفسادهم- فلعل من حكمة الله في ذلك هو هدم هذا الشعار الذي علا يومًا حتى كاد يعم الآذان «العزة للعرب!!» وحتى يرفع الشعار الصحيح ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (المنافقون: 8).

وليكون في وجودهم في قلب الأمة الإسلامية يقظة لهذه الأمة التي تركت الجهاد واتبعت أذناب البقر ورضيت بالغرس والزرع.

وما دام أن اليهود معتدون غاصبون فالمسلمون مأمورون من قبل الله عز وجل بقتالهم ﴿فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ﴾ (البقرة: 194).

ثانيًا:-

لقد علت -بحكم وجود اليهود- كلمة الكفر في تلك الديار، والمسلم مطالب أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فوجود اليهود مسيطرين ظاهرين إعلاء للباطل على الحق.

ثالثًا:-

يأبى المسلم كل الإباء أن يستذل الكافر وأن يحكم بحكمه - إلا راغمًا مغلوبًا على أمره. وأكبر الناس كفرًا اليوم هم اليهود، ولا يرضى مسلم أن يبقى المسلمون من أهل فلسطين تحت حكم الكفار.

رابعًا:-

شهد التاريخ أن اليهود يحرصون دائما على العيش في وحدات مستقلة مغلقة، وأنهم لا يمتزجون بغيرهم من الأمم إلا بالقدر الذي يحفظ عليهم مصالحهم المادية فقط، والشعوب اليوم على اختلاف أوطانها تشعر بالتقزز والنفور من خلطة اليهود؛ فالصداقة والزواج وحتى المعاملات المالية يتمنى معظم الناس فعلها مع غير اليهود لما امتازوا به من جشع وقذارة وسوء طبع. ولذلك فإن هذا الشعار «الدولة الديمقراطية الفلسطينية» التي يتعايش فيها اليهود مع العرب من أبناء فلسطين ممتنع التطبيق من جانب اليهود وإن نادى به بعض دواهيهم في هذه الأيام وما ذلك إلا لصرف المسلمين عن هدفهم وغايتهم ورغبة في ترك العرب لسلاحهم.

خامسًا:-

اليهود الذين هاجروا إلى فلسطين بعد إعلان دولتهم المزعومة سنة ١٩٤٨ واعتراف العالم الظالم بها ما جاءوا إلى فلسطين إلا تثبيتًا وتعميقًا للعدوان؛ فهم قد جاءوا يحملون السلاح لقتل عرب فلسطين وكذلك المحراث ليفلحوا أرضهم وليسكنوا في ديارهم. وإذا كان هذا المفهوم قد تحول الآن شيئًا من الفكر العربي فإنما ذلك يرجع إلى فرسان الهزيمة سنة ١٩٦٧ الذين جروا الأمة إلى هذا العار والدمار بسياستهم الخرقاء وخطبهم الجوفاء.

ثم لما حصلت الهزيمة أرادوا أن يضيفوا إلى نكبة الأمة بهزيمتها نكبة أخرى في عقولها؛ حيث يريدون أن يفرقوا بين اليهودي والصهيوني وبين الدولة اليهودية القائمة والشعب اليهودي!! بل وبين الطبقة البورجوازية الحاكمة وبين الجماهير المسحوقة من أبناء صهيون!!

حسبنا أن نقول لصانعي تلك الهزيمة لو سلمنا معكم أن هناك يهوديًّا لا يريد إقامة دولة اليهود في فلسطين فإنه ليس -حتمًا- اليهودي الذي رحل إلى فلسطين ليشارك في إقامة الدولة اليهودية العدوانية، وبهذا يثبت أن كل يهودي هاجر إلى فلسطين فإنما هاجر لعقيدة بناء الدولة اليهودية فليسموه صهيونيًّا أو ما شاء لهم من تسميات المهم أنه معتدٍ محارب. وهذا في الإسلام لا يكف عنه حتى بعد المقدرة عليه إلا بمَنٍّ من المسلمين كما فعل صلاح الدين مع الصليبيين الغزاة فإنه مَنّ عليهم بعد انتصاره لما رأى من المصلحة في ذلك؛ فليست جريمة إذن أن يُلقى اليهود الذين رحلوا إلى فلسطين في البحر لأنهم قد ألقوا بإخواننا من المسلمين الفلسطينيين في النيران والبحار والدول التي لا ترحم وفي غياهب السجون والمعتقلات. أفبعد هذا يعد رمي اليهود في البحر جريمة!! ونحن إن فعلنا ذلك وسنفعل -إن شاء الله- ولو طال الانتظار فإنما نفعله ردا للإساءة بالإساءة وهو منا ليس بإساءة لأنه جزاء!! ثم أليس اليهود قد أتوا من البحر فلماذا يكرهون العودة إليه!!

كلمة أخيرة

 وبعد فالكيان اليهودي القائم في فلسطین برمته کیان ظالم غادر: قد قتل نفوسًا، وأرمل نساءً، وأثكل أمهات، وألقى بشعب كامل آمن في أتون مستعر: يلاقي الرصاصة القاتلة الحارقة في أرضه، والإهانة والغمز واللمز في غير أرضه، والجزاء الصحيح لهذا الكيان هو إزالته من تلك الأرض. فالقتل لأفراد هذا الكيان -مدنيًّا وعسكريًّا- واجب، وفي كل ذلك شرف لنا ليس عند أنفسنا فقط ولكن في العالم أجمع -إن كان العالم يفهم ويعقل- وهو لا يعقل إلا القوة والبطش، وقد أصبح في مقدورنا شيء من ذلك بعد أن سقط السلاح في الأيدي التي باعت نفسها لله عز وجل، وسيتم إن شاء الله يوم يُرفع علم الجهاد خفافًا وقد علت كلمة «لا إله إلا الله محمد رسول الله» وحوله جنود الله يهتفون  «الله أكبر الله أكبر».

الرابط المختصر :