العنوان ملابسات سقوط الخلافة العثمانية
الكاتب محمد مصطفى المالكي
تاريخ النشر السبت 01-سبتمبر-2018
مشاهدات 27
نشر في العدد 2123
نشر في الصفحة 56
السبت 01-سبتمبر-2018
ملابسات سقوط الخلافة العثمانية
محمد مصطفى المالكي
منسق العلوم الاجتماعية بوزارة التعليم والتعليم العالي بقطر
بانتهاء الحربِ العالمية الأولى انتهت الدولة العثمانية، وتمّ إعلانُ وفاةِ «رجلِ أوربا المريض»، ورغم الضَّعْفِ والوَهَنِ الذي أصابَ الأمةَ الإسـلامية خَشيتْ بريطانيا أن تتحولَ مراسمُ العزاءِ إلى فرحٍ بمولودٍ جديدٍ، يحملُ رايةَ الإسـلامِ والتوحيد، نعم لم تكنْ مراسمُ دفنِ الخلافة العثمانية سهلةً وميسورة، ولهذا احتاطتْ لها بريطانيا وحُقَّ لها أن تحتاط، وخططتْ ما وسِعها التخطيط.
الحرب العثمانية - اليونانية وصناعة الأبطال:
بدأت الحربُ حين قام رئيسُ الوزراء البريطاني «لويد جورج» بتشجيع اليونان، ووَعَدَها بمكاسب إقليمية على حساب الدولة العثمانية، وفي 15 مايو 1919م قام الجيش اليوناني بإنزال 20 ألفَ جندي يوناني في مدينة أزمير التركية والسيطرةِ عليها وعلى المناطق المحيطة بها، تحت غطاء من القوات البحرية الفرنسية والبريطانية، وفرضوا على الدولة العثمانية معاهدة «ســيفر» المذلة، التي وصفها السلطان العثماني بأنها «تركيبة من الشرور»، ورغم أن المجلسَ السلطاني وقّع عليها خوفاً من احتلال اليونانيين لإسطنبول، فإن السلطان لم يصادق عليها على الإطلاق.
أرادَ الخليفةُ القيامَ بحركةِ مقاومة شعبية تمسحُ عار الهزيمة، ولكن بسببِ محاصرتِه في إسطنبول بقوات الأعداء تعذر عليه قيادة الحركة، فاختار ضابطاً في الجيش العثماني اسمه «مصطفى كمال» وعيّنه قائداً عاماً للجيوش العثمانية، ووفقاً لما أكدته الوثائقُ البريطانية فإن السلطانَ قال لـ«كمال»: إنه يستطيعُ إنقاذَ وطنِ الأجداد، وزوَّدَه بصلاحياتٍ واسعة، ومنحه 20 ألفَ ليرةٍ ذهبية، ولكن «مصطفى كمال» استغلَّ هذه الظروف وبدأ يعملُ لحسابِه الخاص، وأعلنَ استقلالَه وعدمَ ارتباطِه بالخليفة أو الحكومةِ في إسطنبول، وأعلن رفضَه لمعاهدة «ســيفر»، وأخذ يحرض الناسَ على الخليفة العثماني «المتخاذل المتواطئ مع أعداء الأمة»، وهاج الشعبُ المسكين على خليفته، ولم يدْرِ أن مصطفى كمال وحركتَه وثورتَه وتسليحَه من صنع الخليفة «المتخاذل»!
بعد توريط اليونان في الحرب توقفت المساعداتُ البريطانية، بل وتحولتْ لصالح مصطفى كمال حيث قدمتْ له بريطانيا العديد من المساعدات العسكرية، وأصدر مصطفى كمال أمرَه الشهير للجيش التركي: «أيتها الجيوش، هدفك الأول هو البحر الأبيض المتوسط، إلى الأمام»، وتم طرد القوات اليونانية، وهكذا تحكمتْ بريطانيا في مسار الحرب، وأضْحَتْ تُحركُها كما تحركُ أحجاراً على رقعةِ الشطرنج.
شَكّلَ مصطفى كمال في أنقرةَ «المجلس الوطني الأعلى»، وطالبَ الدوائرَ العسكرية والمدنية بالارتباطِ به، وقطعِ علاقتهم بإسطنبول، وأظهرَ الإنجليزُ عداءً ظاهرياً لمصطفى كمال حتى يصنعوا منه بطلاً.
وهكذا أصبح في تركيا حكومتان: حكومة إسطنبول وعلى رأسها الخليفة العثماني، الضعيفُ المتخاذلُ المهزوم في نظر الناس، وحكومة أنقرة وعلى رأسها مصطفى كمال، القوي الشجاع المنتصر في نظر الناس، وضَخّمتِ الدعايةُ الإنجليزية انتصاراتَ مصطفى كمال «المزعومةَ»، فانخدع به ملايين المسلمين.
أعلنتْ حكومةُ إسطنبول أنها ستحضرُ مؤتمرَ لوزان في نوفمبر 1922م، فقام مصطفى كمال بإلغاء السلطنة في 1 نوفمبر 1922م، ولما لم يوافقه المجلسُ الوطني أذاعَ مصطفى كمال من نفسه الموافقةَ على ذلك بالإجماع! وهدَّد بقتلِ من يعلنُ رفضَه، وأضحى الخليفةُ العثماني مجرداً من أي سلطات، شأنُه كشأن شيخ الإسـلام ومفتي السلطنة، وردَّ بقوله: إن الخلافةَ لا تكونُ بدون السلطنة، وأيّده في ذلك كثيرٌ من أهل إسطنبول، وبعد خمسة أيام جرى انقلابٌ في إسطنبول، وعُزل السلطانُ محمد وحيد الدين، لأنه رفضَ أن يكونَ ملكاً رمزياً لا علاقةَ له بالحُكم، ونُوديَ بابن عمّه عبدالمجيد خليفة للمسلمين، وبدأتْ وسائلُ الإعلام المرتزقة والمأجورة تنشرُ الأكاذيبَ عن السلطان «الخائن»، وانطلقتِ احتجاجاتُ العامّة والغوغاء المؤيدة لمصطفى كمال.
وفي سنة 1922م أرسل أتاتورك «عصمت إينونو» إلى إنجلترا لمفاوضة الإنجليز على الاستقلال، فقال له السفير البريطاني «كرزون»: «إننا لا نستطيعُ أن نَدَعَكم مستقلين؛ لأنكم ستكونون حينئذٍ نُواةً يتجمعُ حولها المسلمون مرةً أخرى، فتعود المسألة الشرقية التي عانينا منها طويلاً»، فما كان من أتاتورك إلا أن تعهَّد للإنجليز بأن يُزيل مخاوفهم، فاشترطوا عليه في اجتماع عقد في أبريل 1923م أربعةَ شروطٍ على لسان السفير البريطاني «كرزون»، عُرفت بعد ذلك بـ«شروط كرزون الأربعة»، ومن أهمها: إلغاء الخلافة الإسلامية، وأن تقطع تركيا صلتها بالإسلام، فتَحل القوانين الوضعية محل الشريعة الإسلامية، وتضع لنفسها دستوراً علمانياً مدنياً بدلاً من الدستور العثماني المستمد من قواعد الإسلام.
رفضَ الوفدُ التركي برئاسة «عصمت إينونو» هذه المطالب، وأيده المجلس الوطني في تركيا بهذا الرفض، وعاد إلى بلاده، غير أن مصطفى كمال قرّر تنفيذَ هذه المطالب في 24 يوليو 1923م، وبموافقة أتاتورك على تلك الشروط عُقدت «معاهدة لوزان»، وانسحبتْ قواتُ الحلفاء من إسطنبول، ودخلتْها قواتُ أتاتورك دخولَ الفاتحِ المُظفر، ليُظهروه بمظهرِ القائد صاحب الإنجازات والبطولات والاستقلال.
يذكر مصطفى كمال نفسه في كتابه «الخطابة» كيف تمكن من هدم الدولة الإسلامية وإلغاء الخلافة مسجلاً في شماتةٍ لحظاتَها الأخيرة: «إنني أرى أن من المستحسن أن يوافقَ المجتمعون هنا وأعضاء المجلس وكل واحد على اعتبار هذه قضية طبيعية (إلغاء الخلافة أمر طبيعي)، ولكن إذا حدث العكس (إن اعترض أحد) فإن هذا الأمر سيُنفذ أيضاً، وفي إطار المجرى الطبيعي، ولكن من المحتمل أن بعض الرؤوس ستُقطع.. ويجمد الجميعُ لدى سماعهم الجملة الأخيرة، هُيئت لائحة القانون بسرعة، وفي الجلسة الثانية للمجلس في نفس اليوم وعندما اقترح وضع اللائحة للتصويت عليها مع بيان الأسماء وقفتُ على المنصة معترضاً قائلاً: لا أرى حاجة لذلك (لا داعي للتصويت)، ذلك لأنني أعتقد بأن المجلس الموقر سيوافق بالإجماع على الأسس التي سوف تحفظ إلى الأبد استقلال الأمة والوطن، ارتفعت الأصوات قائلة: التصويت! وأخيراً وضع الرئيس اللائحة للتصويت ثم قال: قُبلت اللائحة بالإجماع، ولكن سُمع صوتٌ نشاز «إنني أعارض»، ولكن هذا الصوت اختفى بين الأصوات القائلة: لا يسمح بأي كلام»!
وفي 28 رجب 1342هـ/ 3 مارس 1924م ألغى مصطفى كمال أتاتورك الخلافة رسمياً، وطرد الخليفةَ وأسرتَه من البلاد، وألغى وزارتي الأوقاف والمحاكم الشرعية، وحوّلَ المدارسَ الدينية إلى مدنية، وأعلن قيام الجمهورية التركية وإنشاء دولة علمانية، وشنَّ حملةً واسعة للقضاء على مظاهر الإسلام في البلاد، باعتقال العلماء، وأغلقَ جامع أيا صوفيا وحوّله إلى متحفٍ، وأغلقَ جامع محمد الفاتح وحوّله إلى مستودع! وخفّض عددَ الوعاظ، ومنعَ حجابَ النساء، وألغى تعدد الزوجات، وأصبح الطلاق يتم أمام المحاكم، واستبدلَ القبعةَ الغربية بالطربوش التركي، ومنعَ الأذان باللغة العربية، وأمـرَ بكتابةِ اللغة التركية بالحروف الإفرنجية بدلاً من الحروفِ العربية، وهكذا سُطرت آخرُ صفحات الخلافةِ الإسلامية، ودُفنتِ الدولةُ العلية العثمانية، حيث رثاها أمير الشعراء فقال:
ضَجَّتْ عليكِ مآذِنٌ ومَنابِر
وبكتْ عليكِ ممالكٌ ونَواحٍ
الهِندُ والِهةٌ ومِصرُ حزينةٌ
تَبكي عليكِ بمدمعِ سحاحِ
والشَّامُ تَسأَلُ والعِراقُ وفارسٌ
أَمَحى من الأَرضِ الخِلافةَ ماحٍ
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكلبنسبة مشاركة 84% وتصويت 52.1% لصالحه.. الشعب التركي يجدد الثقة بالرئيس «أردوغان»
نشر في العدد 2180
27
الخميس 01-يونيو-2023
الحــرب الأوكرانيـــــة اختبــــار صعـــب للعلاقـــــات التركيــــة الروسيـــة
نشر في العدد 2183
27
الجمعة 01-سبتمبر-2023