; ملامح المرحلة الجديدة في الحرب البوسنية | مجلة المجتمع

العنوان ملامح المرحلة الجديدة في الحرب البوسنية

الكاتب أسعد طه

تاريخ النشر الثلاثاء 06-يونيو-1995

مشاهدات 15

نشر في العدد 1152

نشر في الصفحة 32

الثلاثاء 06-يونيو-1995

  • الجيش البوسني يستخدم تكتيكا جديدًا في القتال لتحرير الأرض يعتمد سياسة الخطوة خطوة نظرًا لقلة الأسلحة الثقيلة لديه

رغم أن الهدنة التي انتهت بنهاية الشهر الرابع من هذا العام لم تشهد وقفًا كاملًا للأنشطة العسكرية الدائرة على الجبهات الفاصلة بين المسلمين والصرب، إلا أنها مثلت للمسلمين على الأقل فترة لالتقاط الأنفاس وإعادة تنظيم الصف الداخلي والاستعداد للمرحلة الجديدة، وقد نجح المسلمون في ذلك إلى حد كبير سواء على المستوى السياسي أو العسكري، وبدا ذلك واضحًا في هجماتهم المبكرة، والتي بدأت قبل نهاية الهدنة، وتمكنوا خلالها من تحرير مواقع استراتيجية وهامة في شمال ووسط البلاد.

وسجل المراقبون تشددًا واضحًا في موقف الحكومة البوسنية يعكس تحولًا إيجابيًا في قدرات جيشها النظامي، وأثبت ذلك الرفض البوسني المطلق لمد فترة الهدنة رغم الضغوط الدولية التي مورست – كالعادة - في حق البوسنيين، وكانت حجة القيادة البوسنية في ذلك أن هدنة بعد أخرى دون أي حل سياسي يعني تجميد الأوضاع على ما هي عليه، وتثبيت ادعاء الصرب بحقهم في حوالي ستين بالمائة من الأراضي البوسنية المحتلة.

وأعلن الرئيس البوسني أن حكومته لا تمانع في سحب القوات الدولية بعد أن عادت فرنسا لتهدد بسحب قواتها من هناك، وبعد أن طفح الكيل بمخالفات القوات الدولية وصمتها التام إزاء الاعتداءات الصربية ورفضها حتى تسجيل هذه الاعتداءات.

وهدد الرئيس البوسني بأن قواته ستقوم بتطهير المنطقة المحيطة بسراييفو من الأسلحة الثقيلة الصربية، وهي المنطقة التي يصل عمقها إلى عشرين كيلو مترًا من مركز العاصمة، وكان اتفاق حلف الناتو في الشهر الثانية من العام الفائت أعلنها منطقة خالية من الأسلحة الثقيلة.

وجاء هذا التهديد البوسني إثر تصاعد الاعتداءات الصربية على العاصمة البوسنية وتزامن مع شائعات قوية ترددت في الأوساط الرسمية بسراييفو عن محاولة قريبة لفك الحصار بالقوة عن العاصمة، خصوصًا وأن الجيش البوسني نجح في تحرير مرتفعات ترسکافتسا الواقعة جنوب العاصمة على الطريق الرابط بينها وبين بلدة ترنفو، والمؤدي إلى المدينة المحاصرة جوراجدي.

وفي هذه المرحلة الجديدة تمارس الحكومة البوسنية تعتيمًا إعلاميًا شديدًا على تحركات جيشها، أو حتى عن العمليات العسكرية الدائرة، وترفض الإعلان عن أي تقدم تحرزه على أرض الميدان إلا بعد مرور فترة كافية، كما حدث عند تحرير مرتفعات فيلاشيتش في وسط البلاد. 

ويعتمد الجيش البوسني مع ما يعانيه من نقص في الأسلحة الثقيلة ووفرة في الرجال على سياسة حرب الاستنزاف ضد الميليشيات الصربية بما لديها من ترسانة الأسلحة الثقيلة وما تعانيه من نقص شديد في المشاة لديها، ويثير البوسنيون معركة في أقصى الشمال ثم أخرى في أقصى الجنوب، وهو الأمر الذي يرهق الصرب لاضطرارهم لتحريك قوة المشاة المحدودة لديهم من نقطة لأخرى. 

ورغم تكلفة الحرب العالية على المستوى الإنساني والمادي والعسكري، فإن البوسنيين يعتقدون أن طول مدتها سيكون في صالحهم، ولذلك يتبعون مبدأ قضم الأراضي، أو سياسة الخطوة خطوة، بتحرير موقع هام هنا أو قطع ممر استراتيجي هناك، دون الاهتمام بتحرير مدن كبرى أو مناطق واسعة، ويذكر أن أهم المدن ذات الثروات الطبيعية والصناعية في البوسنة هي في أيدي البوسنيين، باستثناء مدينة بانيالوكا، وبسبب نقص المشاة عجزت الميليشيات الصربية خلال هجمات معاكسة لهجمات المسلمين عن تحقيق أي تقدم لأن ضراوة النيران وشدتها وكثافتها قد توقع خسائر بالغة في الصف المعادي، لكن في ظل وجود عجز في الرجال الذين توكل إليهم مهمة التقدم والتمركز وبسط السيطرة يفشل المالك لأعتى الأسلحة الثقيلة من تحقيق أي تقدم على الأرض.

ويوسع البوسنيون حسب المعطيات القائمة الآن تحقيق أضعاف ما يحققونه على جبهات القتال، ولكن العجز في الأسلحة الثقيلة يجعلهم يتقدمون ببطء حتى يبقى في إمكانهم الحفاظ على الأرض المحررة، كما أن نقصان الأسلحة الثقيلة يدفع ثمنه الرجال والجنود البوسنيون من أرواحهم. 

وهذه وتلك تؤكدان أن المعركة ما زالت في حاجة إلى زمن طويل حتى تحسم إذا لم تقع أي تغيرات مفاجئة أو حادة في ميزان القوى بين الطرفين.

الورقة الكرواتية

وهي ورقة يمكن أن تكون حاسمة في هذا الصراع، غير أن مشكلة الرئيس الكرواتي توحي بأن أحلامه التوسعية في البوسنة مازالت أكبر من آمال شعبه في تحرير أراضيه التي يحتل الصرب ثلثها.

وفي الإمكان التأكيد على أن حربًا ستنفجر مرة أخرى بلا شك بين المسلمين والكروات، وأنها ستكون أعنف وأفدح مما كانت عليه، غير أن الطرفين يريان أن في صالحهما الحفاظ على تحالف هش بينهما حتى تتغير معادلات الصراع الدائر لمصلحة أحدهما، ولذلك فإن مشروع دولة التحالف والفيدرالية بين الطرفين لم ير النور حتى هذه اللحظة، وأقصى ما تم هو وقف المعارك بين الطرفين وفتح الطرق بينهما، وأحيانًا صورة بسيطة من التعاون العسكري.

وبذلت العديد من الأطراف الدولية فيالمرحلة الماضية - مثل الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا وماليزيا - جهودًا مكثفة لدعم مشروع الدولة الفيدرالية ومنعه من الانهيار المتوقع بعد فترة ليست قصيرة.

وأثارت الحرب المحدودة التي لندلعت بين الكروات والانفصاليين الصرب في كرواتيا العديد من التساؤلات حول انهيار المفاوضات الدائرة بين الطرفين والتي كان يتوقع أن يدفع المسلمون ثمنها، لكن العملية التي أثارت جدلًا إعلاميًا ضخمًا كانت محدودة للغاية استهدف منها تحرير الطريق الرئيس الذي يربط العاصمة زغرب بشرق البلاد وتحرير منطقة غرب سلافونيا، ولزمت صربيا الصمت على غير كل التوقعات، مما دعا إلى انتشار شائعات تتحدث عن اتفاقيات سرية بين الرئيسين الكرواتي والصربي في هذا الشأن، ومهما كانت صحة هذه المعلومات فإن البوسنيين في النهاية دفعوا ثمن هذا النصر الكرواتي، وقامت «القوات الدولية» بنقل الصرب المطرودين من المناطق التي حررها الجيش الكرواتي في المناطق البوسنية، مما أكد هذه الشائعات التي تحدثت عن مشروعات لتبديل الأراضي بين الصرب والكروات الذين أبدوا كرمهم - حسب ما تردد - في منح الصرب منطقة أوراشيا البوسنية، والتي تسيطر عليها ميليشيات كروات البوسنة وتقع على البحر الاستراتيجي الشمالي والذي تمر عبره كل إمدادات صربيا سواء إلى ميليشيات صرب البوسنة أو ميليشيات صرب كرواتيا، وتدور بالفعل هناك معارك شرسة أرغمت الصرب الكروات بالفعل على التراجع قبل أن يتدخل الجيش البوسني من مناطق أخرى لإنقاذ الموقف.

«أكاشي» زعيم صرب البوسنة

ويدرك البوسنيون أن الموقف الدولي الذي افتضح خلال الثلاث سنوات السابقة سيصل إلى أدناه في المرحلة الجديدة من الحرب البوسنية، وأن العالم أوشك على أن ينفض يده تمامًا عن القضية البوسنية، وهو - فيما يبدو - أقصى ما يتمناه البوسنيون شريطة أن تتوقف المؤامرات الدولية عليهم، وهم في سبيل ذلك يستعدون لمعركة شرسة على الصعيد السياسي، ورغم أنه من المعلوم أن ياسوشي أكاشي ليس إلا موظفًا أمميًا، وأنه لا يتحرك إلا وفق وظيفته الرسمية كمبعوث لبطرس غالي في قضية البوسنة، إلا أن الرجل يتحرك في إخلاص شديد وحماس أشد وبلاهة أشد وأشد لدعم الموقف الصربي، وحسب ما رددته وسائل الإعلام العالمية فإن أكاشي منح الصرب تعهدات بعدم توجيه أية ضربات جوية لقواتهم في مقابل الحفاظ على أرواح الجنود الأمميين التي هي أغلى بلا شك من أرواحالبوسنيين، والغريب أن الصرب يواصلون اعتداءاتهم على القوات الدولية ويسقط القتيل تلو القتيل منهم، لكن المخلص أماشي يتمتع بصدر واسع جعله يتجاوز عن الاعتداءات الصربية على العاصمة ليل نهار، وهي المنطقة المحظورة من الأسلحة الثقيلة حسب قرار حلف الناتو، والآمنة حسب قرار الأمم المتحدة.

وسجل أكاشي صارخ في هذا المضمار، لكنه في النهاية يمثل موقفًا دوليًا رسميًا، «اقتلوهم حيث ثقفتموهم» حيث الأمر موجه إلى كل الأطراف والضمير يعود على المسلمين.

لكن المهم أن المسلمين استوعبوا تمامًا هذا الأمر، بعد أن ظلت قياداتهم السياسية لفترة طويلة تبني حساباتها على المواقف الدولية وعلى مواقف الأصدقاء وأنصاف الحلفاء.

وآخر العروض على الساحة السياسية الآن في هذه المرحلة الجديدة مشروع أمريكي تعلن صربيا بموجبه اعترافها بحدود البوسنة والهرسك دون الاعتراف بحكومتها، مقابل رفع ما تبقى من عقوبات عنها، وفي مقابل - كما يتردد - أن يعلن المسلمون موافقتهم على هدنة دائمة ستمنح الشرعية بلا شك للميليشيات بما استحوذته من أراضٍ.

وفي إطار الضغوط الدولية فإن التهديد بسحب القوات الدولية من البوسنة عاد ليتردد من جديد، وإذا كانت مخالفات القوات الدولية صارخة فإن وجودها حول ثلاث محميات: سرببرينتسا، وجيبا، وجوراجدي، ما زال إيجابيًا، خصوصًا وأن المقاتلين البوسنيين حول سريبرينتسا وجيبا قبلوا بالانسحاب مقابل تعهد القوات الدولية بالحماية.

وأخيرًا فإن البوسنيين عبروا خطر الفناء، ويبقى عليهم إثبات الوجود والتقدم وهو ما في وسعهم بإذن الله.

الرابط المختصر :