العنوان منهج الإسلام في تطهير المجتمع من المعاملات الخبيثة «١ من ٢»
الكاتب أ.د. السيد محمد نوح
تاريخ النشر السبت 03-يونيو-2006
مشاهدات 32
نشر في العدد 1704
نشر في الصفحة 52
السبت 03-يونيو-2006
حرص الإسلام منذ اللحظة الأولى لوجوده على تطهير المجتمع بتحريم السرقة والغصب والاختلاس والربا وغيرها.. وحض على العمل والإنتاج لإرساء الكسب الحلال.
انطلاقًا من قول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ﴾ «سورة طه: 123» يطيب لنا أن نقف على منهج الإسلام في تطهير المجتمع من المعاملات الخبيثة لندرك: كيف يجتث الإسلام الخبيث الضار، ليغرس مكانه الطيب النافع، فنترسم ويترسم معنا خطاه، أولو القيادة والمسؤولية فينا، ونعمل سويًا على اقتلاع المعاملات التي أهلكتنا وأضرّت بنا، على أن تحل محلها المعاملات المفيدة النافعة. ويتلخص منهج الإسلام في تطهير المجتمع من المعاملات الخبيثة فيما يلي:
تحريم المعاملات الخبيثة: فقد حرص الإسلام منذ اللحظة الأولى لوجوده على تطهير المجتمع من المعاملات الخبيثة، بتحريمها تحريمًا مؤبدًا، غاية مما في الأمر أنه فرّق بين نوعين من المعاملات الخبيثة هما:
نوع ليس أصيلًا في حياة الناس، وإنما يقع عرضًا حين تسمح الظروف، وتواتي الفرص كالسرقة والغصب والاختلاس والخيانة ونحوها، وهذا حرمه الإسلام دفعة واحدة، حيث لا يصعب على الناس تركه والتخلي عنه.
ونوع أصيل متمكن من حياة الناس، لا يتم شيء إلا به، وفي ظله، كالربا بكل صوره، وأنواعه فإنه كان مضاربًا أطنابه في كل مكان، ومادًا جذوره إلى كل ناحية من نواحي المجتمع، وهذا سلك الإسلام في تحريمه مسلك المرحلية والتدرج، رحمة بالناس وتلطفًا بهم تمامًا كما صنع الإسلام في شأن تحريم الخمر، حيث لم يبطلها بجرة قلم، لتأصلها في حياة الناس، وإنما أبطلها بالتدريج، وعلى مراحل.
مراحل تحريم الربا
ولا بأس أن نشير هنا إلى مراحل تحريم الربا وإبطاله، مطبقين كل مرحلة من هذه المراحل على ما يقابلها من مراحل تحريم الخمر، لنرى رحمة الله ولطفه بالناس:
لقد من تحريم الربا بأربع مراحل: الأولى منها: كانت وحيًا مكيًا، والثلاث الباقيات مدنية، وكانت كل مرحلة من هذه المراحل متشابهة تمام المشابهة مع التي تقابلها في تحريم الخمر.
أما المرحلة الأولى «المكية» فقد عبرت عنها الآية الكريمة: ﴿وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ ۖ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ «سورة الروم: 39». وهي -كما نرى- لا تعدو أن تكون موعظة تبيّن أن الربا لا ثواب له عند الله، لكنها في نفس الوقت - لم تقل: إن الله ادّخر لأكله عقابًا، وهذا بالضبط نظير ما وقع في المرحلة الأولى المكية من تحريم الخمر: ﴿وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا﴾ «سورة النحل: ٦٧»، حيث أومأ سبحانه وتعالى برفق إلى أن ما يتخذ سُكرًا ليس من الرزق الحسن، دون أن يقول: إنهُ رجس واجب الاجتناب، ومع ذلك كان الأسلوب كافيًا وحده في إيقاظ النفوس الحية، وتنبيهًا إلى الجهة التي سيقع عليها اختيار المشرع الحكيم.
وأما المرحلة الثانية فقد عبرت عنها الآية الكريمة ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ۚ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ «سورة النساء: 160 – 161».
وهي كما نرى دروس وعِبَر قصها علينا القرآن الكريم من سيرة اليهود الذين حرم الله عليهم الربا فأكلوه، وعاقبهم الله بمعصيتهم، وواضح أن هذه العبرة لا تقع موقعها إلا إذا كان من ورائها ضرب من تحريم الربا على المسلمين، ولكنه حتى الآن تحريم بالتلويح والتعريض لا بالنَص الصريح، ومهما يكن من أمر فإن هذا الأسلوب كان من شأنه أن يدع المسلمين في موقف ترقّب وانتظار لنهي يوجه إليهم قصدًا في هذا الشأن تظهر ما وقع بعد المرحلة الثانية من الخمر.
وأما المرحلة الثالثة، فقد عبرت عنها الآية الكريمة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ «سورة آل عمران: 130»، وهي كما نرى نهي صريح عن الربا، لكنه لم يكن نهيًا كليًا، وإنما كان جزئيًا عن نوع منه، وهو الربا الفاحش الذي يتزايد حتى يصير أضعافًا مضاعفة، نظير ما حدث في المرحلة الثالثة من الخمر، حيث نهى صراحة عن شربها في أوقات الصلاة حتى يعي المسلم ما يناجي به ربه، ولا يخلط في صلاته.
وأما المرحلة الرابعة فقد عبرت عنها الآيات الكريمات: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ ۚ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281) ﴾ «سورة البقرة: 275 – 281»، وبها حرم الله الربا كله تحريمًا نهائيًا إلى قيام الساعة، نظير ما جاء في المرحلة الرابعة بالنسبة للخمر. وهكذا كانت الخطوة الأولى للإسلام في تطهير المجتمع من المعاملات الخبيثة هي تحريم هذه المعاملات تحريمًا مؤيدًا، إما دفعة واحدة وإما بالتدريج وعلى مراحل.
الحض على الإنتاج
وكانت الخطوة التالية للإسلام هي الحض على الإنتاج حتى يستطيع الإنسان مد حاجاته بجهده وعرقه، دون أن يلجأ إلى ما ليس بمشروع، بل حتى يستطيع مساعدة غيره من ذوي الحاجات فيسعد المجتمع فدعا إلى:
1- العمل والكسب الحلال:﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ «سورة الملك: 15».
فلقد مارس رسول الله ﷺ العمل بنفسه قبل النبوة، حيث رعى الغنم لبعض أهل مكة، واشتغل بالتجارة لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وشارك في بناء الكعبة، وفي حرب الفجار، وبعد النبوة، حيث كان إمامًا، وقاضيًا، ومجاهدًا، ومشاركًا لأهله في مهنتهم. وقد أشار القرآن إلى كثير من الأعمال لا سيما الصناعية، وذكرها على أنها نعمة من فضله، كقوله عن داود: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ﴾ «سورة سبأ: 10 – 11»، ومن عجب أن الإسلام وهو يدعو إلى العمل قرن هذه الدعوة بالحوافز أو البواعث الدنيوية والأخروية، ليبذل الإنسان كل ما في وسعه وطاقته، مستسهلًا الصعب، مستعذبًا التعب.
2- حرمة المسألة إلا عند الضرورة القصوى حتى لا يكون هناك تكاسل أو تواكل؛ بقوله ﷺ: لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة «لحم» «المزعة: القطعة من اللحم».