العنوان من فقه التاريخ وأحداثه..
الكاتب أ.د. السيد محمد نوح
تاريخ النشر السبت 16-يونيو-2007
مشاهدات 16
نشر في العدد 1756
نشر في الصفحة 50
السبت 16-يونيو-2007
لقد شهد الله في كتابه أن المسلمين خير البشر بإطلاق، فقال سبحانه: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (البقرة: 110). وعلل لذلك بقيامهم بواجبهم نحو غيرهم، ونحو أنفسهم، فقال: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾(آل عمران: 110).
.. وهذه أيضًا شهادة من التاريخ
وبعبارة أخرى يحققون معنى الشهادة التي خلقوا لها، ومن أجلها؛ حيث يقول: ﴿كَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ (البقرة: ١٤٣). ويقول: ﴿مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾(الحج: 78).
يعني يعبدون أنفسهم لله، ويعملون على تعبيد غيرهم لله، ويحمون دين الله؛ لئلا يكون فتنة، ويكون الدين كله لله، كما شهد سبحانه أن هداية المسلمين خير للبشرية جميعًا وأن ضلالها خسارة كبرى لهذه البشرية؛ حيث يقول: ﴿وَدَّت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ (آل عمران: 69).
وشهد النبي ﷺ في سننه بخيرية المسلمين هذه عندما قال فيما أخرجه الترمذي في جامعه، وقال عنه: حسن صحيح وابن ماجه في سننه وحسنه، والحاكم في مستدركه وصححه من حديث بهز بن حكيم. عن أبيه، عن جده: في هذه الآية: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ (آل عمران: 110): أنتم متمون سبعين أمة، أنتم خيرها، وأكرمها على الله.
وقال في حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عند أحمد بإسناد حسن: «وجعلت أمتي خير الأمم»، وبين سبب هذه الخيرية فيما أخرجه الطبري وابن أبي حاتم من طريق عكرمة: قال: «كان من قبلكم لا يأمن هذا في بلاد هذا، ولا هذا في بلاد هذا، فلما كنتم أنتم أمن فيكم الأحمر والأسود»، أي العربي والأعجمي، وعن عكرمة أيضًا: «لم تكن أمة دخل فيها من أصناف الناس مثل هذه الأمة»، وأخرج الطبري من حديث أبي بن كعب بإسناد حسن: «لم تكن أمة أكثر استجابة في الإسلام من هذه الأمة»..
وشرح النبي ﷺ ذلك في حديثين عند البخاري الأول من حديث ابن عمر ولفظه: «إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا حتى إذا انتصف النهار عجزوا فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا إلى صلاة العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أوتينا القرآن، فعملنا إلى غروب الشمس، فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتابين: أي ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطيتنا قيراطًا قيراطًا، ونحن كنا أكثر عملًا، قال الله عز وجل: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء».
والثاني من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: «مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل أستأجر قومًا ليعملوا له عملًا إلى الليل، فعملوا إلى نصف النهار قالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك. فاستأجر آخرين فقال أكملوا بقية يومكم، ولكم التي شرطت فعملوا حتى إذا حين صلاة العصر، فقالوا: لك ما عملنا، فاستأجر قومًا، فملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس، واستكملوا أجر الطريقين».
الأمة المسلمة إذن خير الأمم قاطبة بشهادة الله والرسول ﷺ، والسبب أنه فضل الله أولًا وآخر، ثم جهاد هذه الأمة مزينًا بمحاسن ومكارم الأخلاق، لا مع الصديق وحده، بل مع العدو والصديق سواء، وكان يكفينا هاتان الشهادتان؛ لأنهما من عند رب العالمين، وعلى لسان وأعمال الصادق المصدوق محمد ﷺ وكفى بهما من شاهدين، ولكن لما كان أكثر الناس كفارًا لا يؤمنون بالله حق الإيمان ولا بالرسول. وكان كذلك أكثر المسلمين عصاة غافلين أو غير مبالين أو شاكين ومترددين، كان لابد من شهادة ثالثة تضاف إلى الشهادتين الأوليين، ألا وهي شهادة التاريخ؛ لذا كان هذا المقال بعنوان: «وهذه أيضًا شهادة من التاريخ».. إذ من يقلب صحائف تاريخنا، وتاريخ غيرنا بأمانة، وصدق وإنصاف يجد في هذا التاريخ، أن الأمة المسلمة خير أمة أخرجت للناس، وأن عودتها للإمساك بزمام الحياة من جديد أمر حتمي تفرضه طبيعة العمران البشري السعيد الآمن المطمئن، وأن غيابها خسارة كبرى للبشرية جميعًا كما عبر عن ذلك المرحوم -بإذن الله- الداعية الكبير الأستاذ أبو الحسن الندوي من خلال كتابه: «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين»؟ فماذا قدمت هذه الأمة تاريخيًا للبشرية حتى استحقت من ربها هذه المنزلة، وتلك المكانة؟
أول ما قدمته: بذل أرواحها لتأمين نشر الخير والفضيلة في الناس، ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا﴾(النساء: 75).
ثم مقاومة الرذيلة؛ لئلا تتحول الأرض إلى نواة من الشر والفساد، ثم إقامة الحجة على المصرين والمعاندين.
كما قال سبحانه: ﴿وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ (الأعراف: 164).
ثانيًا: سارت في الناس بسيرة الرحمة والعدل والإنصاف، فلا تؤذي أحدًا بيد ولا بلسان امتثالًا لتوجيه النبي ﷺ: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده..» «رواه البخاري».
بل تكظم غيظها وتتحمل أذى الآخرين امتثالًا لقوله سبحانه: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾
(آل عمران: 134)، بل تأخذ بمبدأ العفو والمسامحة كما قال سبحانه: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (آل عمران: 134).
ثالثًا: تحلت بالإحسان بمعنى أنها كانت تراقب الخالق قبل مراقبة المخلوق، فتتقن أعمالها، ولا تخون بعمالة أو نحوها، وتقابل السيئة بالإحسان، لقوله سبحانه: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾(آل عمران: 134).
رابعًا: كانت دائمة المراجعة والمحاسبة لنفسها ولغيرها، وكانت تعمل جاهدة على التخلص من الأخطاء، والإقلاع عنها إلى غير رجعة خوفًا من الله، وابتغاء رضوانه.
أمتنا.. خير الأمم قاطبة بشهادة الله والرسول ﷺ وكفى بهما شاهدين.
وإليك من وقائع التاريخ ما يجلي ذلك:
1- كان المسلمون الفاتحون لا يدخلون بلدًا إلا بعد تعريف أهلها بأهدافهم ومقاصدهم، فيقولون لهم: أنتم مدعوون للإيمان بالله والخضوع والاستسلام له والنزول على حكمه في كل ما تأتون وما تدعون، فإن أبيتم فعليكم دفع ما يقابل حمايتكم، وما يبرهن على أنكم لن تتمردوا على النظام الرباني، فإن أبيتم فالحرب، فإن خالفوا هذه السنة أو أخلوا ببعض بنودها وقع عليهم الجزاء، والعقاب من قبل السلطان.
● دخل المسلمون سمرقند بقيادة قتيبة بن مسلم الباهلي مباغتة دون إعلام أهلها بوجهتهم أو المطلوب منهم، فما كان من أهلها إلا أن أرسلوا إلى الخليفة آنذاك عمر بن عبد العزيز رسالة مفادها أن قتيبة قائد الجيش الإسلامي دخل مدينتهم وأسكنها المسلمين غدرًا بغير حق، فكتب عمر إلى عامله هناك أن يعين لهم قاضيًا للنظر في مظلمتهم، وإذا قضى بإخراج الجنود من سمرقند أخرجوا، وفعلًا عيّن لهم الوالي قاضيًا ينظر في شكواهم، وبعد النظر في الشكوى وسماع الشهود، وفحص القرائن حكم بإخراج المسلمين من سمرقند، ثم طلب من قائد الجيش الإسلامي أن يوجه إليهم إنذارًا وفق مبادئ الحرب في الإسلام؛ كي يكون أهل سمرقند على بصيرة من أمرهم، ويتخذوا الوضع المناسب لهم، وتم فعلًا انسحاب الجيش الإسلامي من سمرقند، فكأنه جيش منهزم، فلما رأى ذلك أهل سمرقند. وأيقنوا أنه لا مثيل لمثل هذه العدالة على مدار التاريخ أن تقضي الدولة على جيشها وقائدها، وتمضي في تنفيذ هذا القضاء هتقوا جميعًا، هذه أمة لا تحارب إنما حكمها رحمة ونعمة، ورضوا ببقاء الجيش الإسلامي، وأقروا أن يقيم المسلمون بين أظهرهم.
هل قرأ أحد في كتب التاريخ: أن جيشًا يدخل مدينة ويفتحها، فيشتكي أهلها المغلوبون للدولة المنتصرة، فيحكم قضاؤها على جيش هذه الدولة المنتصرة بالخروج من هذه المدينة وإعلان أهلها بوجهة هذا الجيش؛ ليروا رأيهم، ويتخذوا قرارهم بحرية ودون إكراه مثل ما جاء في هذه الصورة؟
● وكذلك لما فتح المسلمون دمشق وحمص، وبقية المدن السورية، وأخذوا من أهلها قدرًا من المال عوضًا عن حمايتهم والدفاع عنهم، رأى قادة الجيش الإسلامي، بعد أن جمع لهم هرقل الجموع لينازلهم في معركة فاصلة أن يخلوا المدن المفتوحة، ويتجمعوا في مكان واحد لمنازلة الروم مجتمعين لا مبعثرين؛ إذ لن يستطيعوا صد جيوش هرقل إلا بهذه الطريقة، وخرج جيشنا نحن المسلمين من حمص، ودمشق والمدن الأخرى، وجمع خالد بن الوليد رضي الله عنه أهل حمص، وجمع أبو عبيدة عامر بن الجراح أهل دمشق، وجمع كذلك بقية القادة أهل المدن الأخرى، وقالوا لهم: «إنا كنا قد أخذنا منكم أموالًا على أن نحميكم، وندافع عنكم، ونحن الآن خارجون عنكم، لا نملك حمايتكم، فهذه أموالكم نردها إليكم، فقال أهل هذه المدن: «ردكم الله ونصركم الله، لحكمكم وعدلكم أحب إلينا من جوار الروم وظلمهم، والله لو كانوا مكانكم لما دفعوا إلينا شيئًا، بل كانوا يأخذون معهم كل شيء يستطيعون حمله».
● لما دخل التتار بلاد الشام وقع في أيديهم أسرى كثيرون من المسلمين واليهود والنصارى، ودخل شيخ الإسلام ابن تيمية ت ٧٢٨هـ رحمه الله، وكلم أمير التتار في أمر هؤلاء الأسرى، وضرورة فك أسرهم، وإطلاق سراحهم، فأجابه أمير التتار إلى فك أسرى المسلمين فقط دون اليهود والنصارى، فأبى شيخ الإسلام ذلك، وقال له: «لابد من افتكاك جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا، ولا ندع أسيرًا من أهل الملة، ولا من أهل الذمة».
هذه أخلاق الأمة المسلمة مع خصومها وأعدائها، ولكي ندرك قيمة هذه الأخلاق، وعظمتها، وبالتالي قيمة حامليها وعظمتهم علينا قراءة هذه الصورة التالية بتدبر وإنعام.
● لما وصل الصليبيون في حملتهم الثانية معرّة النعمان ببلاد الشام حاصروها حتى اضطر أهلها، وكانوا مسلمين، إلى الاستسلام وعدم المقاومة بعد أن أخذوا من رؤساء الحملة عهودًا مؤكدة ومواثيق بالمحافظة على النفوس، والأموال، والأعراض، وما كادوا يدخلونها حتى ارتكبوا من الفظائع ما تشيب له الولدان، وقدر بعض المؤرخين الإفرنج الذين كانوا في هذه الحملة عدد القتلى من المسلمين، رجالًا وأطفالًا ونساء بمائة ألف. ثم تابعوا مسيرتهم إلى بيت المقدس، وشددوا الحصار على المدينة حتى رأى أهلها أنهم مغلوبون لا محالة، فطلبوا من قائد الحملة وكان اسمه «طنكرد»: الأمان على أنفسهم وأموالهم فأعطاهم رايته يرفعونها على المسجد الأقصى، ويلجؤون إليه لحماية أنفسهم،
وذويهم، ثم دخل هذا القائد بجنده المدينة، وحين تمكن منها قصد المسجد وذبح كل من احتمى به من شيوخ وأطفال ونساء، ذبح النعاج، وسالت الدماء في المسجد حتى بلغت الركب؛ بل وصلت إلى صدور الخيل، وذبح كل من في المدينة حتى كانت الشوارع تعج بالجماجم المحطمة والأذرع المقطعة والأرجل والأجسام المشوهة، وبلغ عدد الذين ذُبحوا في المسجد وحده سبعين ألفًا، منهم الأئمة والعباد والزهاد، فضلًا عن النساء والأطفال، ويعترف مؤرخو الصليبيين بهذه الفظائع، ولا ينكرونها بل إن كثيرين منهم ليتحدثون بها فخورين!
هذه أخلاق غير المسلمين في مواجهة أخلاق المسلمين.
● بعد مضي تسعين سنة على هذه المجزرة فتح صلاح الدين الأيوبي بيت المقدس، فماذا فعل؟
لقد كان في مدينة بيت المقدس ما يزيد على مائة ألف غربي بذل لهم الأمان على أنفسهم وأموالهم، وسمح لهم بالخروج مقابل مبلغ من المال يدفعه المقتدر منهم، وأعطاهم مهلة للخروج أربعين يومًا، فجلا منهم أربعة وثمانون ألفًا لحقوا بإخوانهم في عكا وغيرها، وأطلق كثيرًا من الفقراء من غير هدية، ودفع الملك العادل أخو صلاح الدين الفدية عن ألفي رجل منهم، وعوملت النساء معاملة لا تصدر عن أي ملك أو رئيس دولة منتصر في العصر الحديث، وزاد هذا العمل روعة وبهاء، أن صلاح الدين أرسل مع الغربين الذين نزحوا من القدس لينضموا إلى إخوانهم في المدن الأخرى من يحميهم، ويوصلهم أماكن الصليبيين براحة وأمان مع أنه لا يزال في حرب معهم، بل أكثر من ذلك: لقد اجتمع كثير من النساء اللاتي دفعن الجزية. وذهبن إلى السلطان يتوسلن إليه قائلات: إنهن إما زوجات أو أمهات أو بنات لبعض من أسر أو قتل من الفرسان والجنود، ولا عائل لهن، ولا مأوى، ورآهن يبكين، فبكى معهم تأثرًا وشفقة، وأمر بالبحث عن الأسرى من رجالهن، وأطلق الذين وجدهم وردهم إلى نسائهم، أما اللاتي مات أولياؤهن فقد منحهن مالًا كثيرًا جعلهن يلهجن عليه بالثناء أينما سرن. ثم سمح لهؤلاء الذين أعتقهم أن يتوجهوا مع نسائهم وأولادهم إلى سائر إخوانهم اللاجئين في صور وعكا.
إن قصة صلاح الدين مع الغربيين في الحروب الصليبية تشبه الأساطير، ولولا أن الغربيين أنفسهم لا يكاد ينتهي عجبهم من قبل هذا البطل، وسمو أخلاقه لكان هناك مجال لاتهام مؤرخينا بالمبالغة، بل إن الغربيين أنفسهم ليذكرون عن صلاح الدين أنه لما بلغه مرض ريتشارد قلب الأسد أكبر قواد الحملات الصليبية وأشجعهم؛ أرسل إليه طبيبه الخاص يحمل إليه العلاج والفواكه التي ما كان يمكن أن يحصلها هذا القائد. هذا والحرب بنيهما على أشدهما، والصراع محتدم!
2- وكان المسلمون يتدخلون لحماية الضعفاء، وبذل أرواحهم، وخير ما يصور هذا حماية المسلمين البوشناق في البوسنة والهرسك إبان الحرب العالمية الثانية لليهود الذين لقوا من ألمانيا النازية كل اضطهاد وملاحقة، واليهود أنفسهم يعرفون ذلك، ويحفظونه، ويقر به عقلاؤهم حتى يومنا هذا.
3- وكان المسلمون يقتصون من أنفسهم لأصحاب الحقوق ولو كانوا غير مسلمين هذا ابن عمرو بن العاص يسابق ابن أحد أقباط مصر فسبقه ابن القبطي، فضريه ابن عمرو على رأسه بالسوط قائلًا: خذها من ابن الأكرمين، ويشكوه القبطي إلى عمر فيأمر عمر: أن يحضر عمرو ومعه ابنه، وأن يحضر القبطي ومعه ابنه، وفي موسم الحج، وعلى مرأى ومسمع من الحجيج يأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ابن القبطي بالقصاص من ابن عمرو قائلًا: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا»؟
ثم يكشف عن صلعة عمرو ويقول لابن القبطي: اضرب عمرًا فيأبي قائلًا: لا أضرب إلا من ضربني، فيقول عمر كلمته المشهورة، «إنه ما ضربك إلا بسلطان أبيه».
هذه وغيرها أخلاق الأمة المسلمة، وبها استحقت كما قال ربنا، وأكده نبينا وشهد به التاريخ أنها خير أمة أخرجت للناس، وحسبنا أن لم يكن بها عميل ولا خائن، وإن كان فقيرًا لا يجد ما يملأ به بطنه من الطعام أو يستر به جسده من اللباس، وقصة ربعي بن عامر وزميليه مع رستم قائد جيوش الفرس، ومحاولته شراء ذمة هؤلاء وفشله.. خير شاهد على ذلك.
إذ تروي كتب التاريخ أن ربعي بن عامر دخل على رستم قائد جيوش الفرس بثياب صفيقة وسيف، وترس، وفرس قصيرة ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه، ودرعه، وبيضته على رأسه، فقالوا له: ضع سلاحك فقال: إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت فقال رستم: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق، فخرّق عامتها، فقالوا لها: ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد، إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه، ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله. قالوا: وما موعود الله؟ الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي، فقال رستم. لقد سمعت مقالتكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟ قال: نعم. كم أحب إليكم؟ يومًا أو يومين؟ قال: لا، حتى نكاتب أهل رأينا، ورؤساء قومنا، فقال: ما سنّ لنا رسول الله ﷺ أن نؤخّر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فأنظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل، فقال: أسيدهم أنت؟ قال: لا، ولكن المسلمون كالجسد الواحد يجير أدناهم على أعلاهم، فاجتمع رستم برؤساء قومه فقال: هل رأيتم أعز وأرجح من كلام هذا الرجل؟ قالوا: معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك إلى هذا الكلب، أما ترى ثيابه؟ فقال: ويلكم لا تنظروا إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي والكلام، والسيرة، إن العرب يستخفون بالثياب والمأكل، ويصوتون الأحساب، ثم طلب رجلًا ثانيًا من أمير المسلمين سعد. فأرسل إليه حذيفة بن محصن، فتكلم بنحو ما قال ربعي، فطلب ثالثًا فأرسل إليه سعد المغيرة بن شعبة، فتكلم بنحو كلام صاحبيه، وبعد أن خرج جمع رستم رؤساء قومه وأصحاب الوجاهة، فقال لهم: طلبنا ثلاثة علنًا نجد فيهم ضعيف الدين فنشتريه، وعن طريقة ندخل على القوم، فلم نجد، وأرى أن أمر القوم واحد، والأحسن أن نجيبهم إلى ما طلبوا وإلا سيملكن ما تحت قدمي هاتين. «انظر حياة الصحابة للشيخ محمد يوسف الكاندهلوي 1/200-222» بتصرف..
وبعد، فإن التاريخ لينادي على هذه الأمة أن عودي لأداء وظيفتك التي أخرجك الله من أجلها، كي تتسلمي زمام قيادة البشر من جديد فتسعدي وتسعدي. هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكلبرقية جمعية الإصلاح الاجتماعي إلى مؤتمر وزراء التربية العرب في ليبيا
نشر في العدد 3
113
الثلاثاء 31-مارس-1970
معالم الإصلاح والتجديد في تجربة نور الدين زنكي (3) العـدل أسـاس المـلك
نشر في العدد 2181
49
السبت 01-يوليو-2023
كلمــــات إنصــــاف بحــق المفتـــرَى عليــــه.. ماذا فعل السلطان عبدالحميد الثاني لحمايـــــة وتوحيــــد الأمـــة؟
نشر في العدد 2176
33
الأربعاء 01-فبراير-2023