العنوان مهدي عاكف.. ورحلة عُمْر
الكاتب عبده دسوقي
تاريخ النشر الأحد 01-أكتوبر-2017
مشاهدات 18
نشر في العدد 2112
نشر في الصفحة 38
الأحد 01-أكتوبر-2017
رثاء
مهدي عاكف.. ورحلة عُمْر
مقومات شخصية عاكف تشكلت على يد والده الذي حرص على تعليم أولاده معنى الرجولة
والده سعى إلى إلحاقه بالكلية الحربية من أجل أن يبعده عن الإخوان المسلمين
ترك كلية الهندسة والتحق بمعهد التربية الرياضية بعد أن علم بعدم وجود أحد من الإخوان فيه
قام بجمع مخلفات الأسلحة من الحرب العالمية الثانية وإعدادها وإرسالها للمجاهدين في فلسطين
1954م حُكم عليه بالإعدام بتهمة تهريب عبدالمنعم عبدالرؤوف ثم خفف الحكم للمؤبد وظل مسجوناً حتى عام 1974م
عبده مصطفى دسوقي
تمر السنون تلو السنين والأيام تلو الأيام ويولد أناس ويموت أناس، وكثير منهم من يولد ويعيش ويموت ولا يعرفه أحد، ومنهم من يولد ويعيش فتعرفه كل أركان الأرض بأعماله الصالحة بل تذكره الملائكة في رياض الصالحين.. ومهدي عاكف واحد ممن عاش طيلة حياته ومات ويتذكره الجميع بأعماله الخالدة، وسنحاول في هذا المقال أن نتلمس بعض ما لم يعرفه الكثيرون عن الأستاذ محمد مهدي عاكف، من خلال مذكراته التي لم يتح لها النشر كاملة بعد.
في جو امتاز بصفاء الطبيعة وروعة الحياة وبساطة المعيشة وصدق المشاعر بين أبناء القرية نشأ محمد مهدي عاكف وسط أسرة متدينة، حرص رب الأسرة على تربية أبنائه تربية إسلامية، فقد ولد في يوم 12 يوليو 1928م بقرية كفر عوض السنيطة مركز أجا بمحافظة الدقهلية، ويصف أسرته بقوله: «ولدت في أسرة ثرية وهي أسرة عاكف حيث كان جدي عثمان عاكف الطبيب الخاص للخديو وللسلطان، غير أن الإنجليز قتلوه في عام 1900م وكان والدي عمره سنتان».
ولننظر لوصف بيته وكيف كان في الصغر بقوله: «كان بيتنا الكبير مليئاً دائماً بالخيرات، وكان والدي محط احترام أهل القرية وإجلالهم، وما يكاد يخرج من البيت لعمله حتى تدب الحركة، ويعلو صياحنا - نحن الأطفال - حتى يملأ البيت، وتبدأ أمي الحبيبة تلك الملاك الجميل، الباسم الوجه، المشرقة، المحبة، يومها بعد صلاة الفجر بتجهيز طعام الإفطار الشهي، وإيقاظ النائمين، ثم تبدأ في أعمال البيت بكل همة ونشاط.
وأتاح لنا مرور الترعة من أمام البيت أن نتدرب على فنون صيد الأسماك، فكنا نخرج بالساعات نقضيها على الترعة في صيد السمك، وكانت هذه المهنة لها عامل كبير في تعليمنا فنون الصبر والتريث».
لقد تشكلت مقومات شخصية عاكف على يد والده الذي حرص على تعليم أولاده معنى الرجولة الحقة وفنون الحياة والقوة وفنون الحوار مع العاقل والإعراض عن السفيه والجاهل، كما تعرف غض الطرف عن التفاهة والسفاهة، والالتزام بما يرفع المقام والمكانة، فقد كان والده يعطيهم الفرصة ليعبروا عن آرائهم بكل شجاعة دون الإخلال بالأدب في الحديث أو علو الصوت أو عدم احترام الكبير.
تخرج في مدرسة المنصورة الابتدائية، وبعدها كانت رحلة في عالم كبير هو عالم المدينة الكبيرة.
انتقل إخوته للدراسة في الجامعة، فاتخذ والده قراراً بانتقال الأسرة كلها لتكون لُـحمة واحدة غير متفرقة وقطنوا في حي السكاكيني، والتحق بالفرقة الأولى الثانوية بمدرسة فؤاد الأول.
أول خطوة في «الإخوان»
في مدرسته ومسجدها كانت جموع الشباب تلتقي لتقف بين يدي ربها، وبعدها تتلاقى القلوب لتتعارف، وكان وسط هؤلاء من يرتفع مقامه وتلتف حوله القلوب ويستمع له الجميع، إنه واحد من طلاب الإخوان المسلمين الذين حملوا همَّ دعوتهم فنشروا عبيرها وسط القلوب الطاهرة النضرة فتلقفها بعضهم وكان مهدي عاكف منهم، وقد حرص على المساهمة معهم في كل فنون الرياضة، حيث كان يحرص على مباريات كرة القدم، ولم تتوقف العلاقة على ذلك، بل توسعت دائرة المعرفة فتعرف على الإخوان في السكاكيني أمثال أحمد السكري، وأحمد عادل كمال، وإبراهيم الطيب، وذلك كان عام 1941م، والتقى بالأستاذ البنا بالمركز العام.
انتقل عاكف وأسرته إلى شارع الملكة نازلى (رمسيس حالياً) وقت أن كان على مفترق الطرق حيث تخرج في التوجيهية، وكان والده يسعى بكل قوته من إلحاقه بالكلية الحربية من أجل أن يبعده عن الإخوان المسلمين، وتقدم ونجح في الكشف الطبي، غير أنه رأى بعض السلوكيات الشائنة التي دفعته لسحب أوراقه وتقديمها في كلية الهندسة، ولم يمانع والده، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، حيث إنه كان قد انضم للنظام الخاص، والتقى بالإمام البنا بعد فترة من انتقاله في السكن، وتحدث الأستاذ البنا معه ومع غيره أن الإخوان ليس لهم في معهد التربية الرياضية العالي أحد، فسمع الكلمة وتحدث مع صديق له اسمه صلاح حسن الذي وافقه على أن يذهب لكلية التربية الرياضية، وكانت الأمور تسير بكل يسر، حيث استقبلوه في الكلية بالترحيب؛ مما شجعه أن يسحب أوراقه من الهندسة ويتقدم بها للتربية الرياضية بعد نجاحه في كل الاختبارات، وكانت اللجنة التي أجرت له الاختبار الشخصي تضم د. القوصي، ود. زكريا، عميد المعهد، ود. فؤاد جلال، أستاذ التربية وقتها، والتي وافقت على قبوله.
قُبل عاكف في التربية الرياضية، فكانت الأزمة مع والده وإخوته الذين رغبوا أن يكون مهندساً مثلهم، ولم تهدأ العاصفة إلا بعد شهور حينما زار والده التربية الرياضية ووجدها من الكليات المحترمة.
ولنستمع منه عن الأسباب التي دفعته لدخول التربية الرياضية حيث قال: «لكن الحقيقة أنني دخلت المعهد لسببين؛ أولهما لخدمة الإخوان حيث كنا نرغب في الانتشار وتوصيل دعوتنا في كل مكان، أما السبب الثاني فقد كان والدي نفسه رحمه الله، كان شديداً جداً في حرصه علينا، فلا نتأخر بعد الثامنة، ولأنني كنت في النظام الخاص، وكنا كثيراً ما نتأخر وأحياناً أرغب في المبيت خارج المنزل، فقد كان التحاقي بالمعهد فرصة لأتعلل عندما أتأخر خارج البيت»، ومن المفارقات أن الذي رشحه للنظام الخاص هو الأستاذ البنا.
ساحة الحرب
حينما أنشأ حسن البنا النظام الخاص عام 1940م كان لسببين:
1- التصدي للمحتل الإنجليزي على أرض مصر.
2- التصدي للمغتصب الصهيوني على أرض فلسطين.
ولذا حرص على تشكيل كتائب سافرت لفلسطين؛ حيث أقلقت مضاجع الصهاينة، وشهد لهم الجميع بهذا الجهد، وكان عاكف واحداً من هذا النظام، فكانت المهام الملقاة على عاتقه مع عدد من أفراد النظام الخاص هي جمع مخلفات الأسلحة من الحرب العالمية الثانية وإعدادها وإرسالها للمجاهدين في فلسطين، وظل كذلك حتى وقعت المحنة عام 1948م، حيث تم اعتقاله في 29 ديسمبر 1948م وأرسل إلى معتقل الهايكستب ثم بعدها معسكر الطور، حيث شاركه في المعتقل الشيخ القرضاوي، والشيخ الغزالي، والشيخ سيد السابق، حيث كان يقوم بالنشاط الرياضي لهم في السجن، وظل بالسجن حتى خرج في يناير 1950م.
ومن المواقف أنه ضاع عليه امتحان العام نظراً لأن الكلية عملية، غير أنه فوجئ بعميد الكلية يطلب منه أداء الامتحان، فتم ذلك في مارس من نفس العام وظهرت النتيجة في 5 أبريل ونجح، وكان ذلك لتدخل د. طه حسين لدى العميد لإعادة امتحانه.
تخرج وكان السادس على دفعته وحقه التعيين في القاهرة، غير أن البوليس السياسي رفض وخيّره بين المحافظات فاختار طنطا، حيث استطاع أن يحصل على توجيهي أدبي ويلتحق بكلية الحقوق بعدما انتقل لمدرسة سرس الليان وكانت تتبع منظمة “اليونسكو”.
على أرض النار
خرج النحاس باشا بتصريحاته النارية التي ألهبت الوجدان وأشعلت جذوة النار في قلوب طلاب الجامعات بعدما قرر إلغاء معاهدة عام 1936م من طرف واحد، فانطلق الطلاب يكبدون العدو الإنجليزي الخسائر تلو الخسائر في حرب القنال، فكان عاكف أحد هؤلاء الذين قادوا معسكر التدريب في جامعة إبراهيم باشا، فخرّج جيلاً زلزل أركان المحتل عام 1951م، يقول: «في أحد الأيام فوجئتُ بالدكتور عثمان خليل، عميد كلية الحقوق، يأتيني ويقول لي: إن مدير الجامعة د. محمد كامل حسين يريد أن يقوم بافتتاح المعسكر على شاكلة معسكر جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة)، فقلت له: يا عثمان بك، نحن خارجون عن القانون ونعمل في حمى حرم الجامعة، ولا نستطيع أن نقوم بذلك خارج الحرم الجامعي، وأنتم لكم صفة رسمية، فهل تشاركوننا هذه المسؤولية؟ وكان د. نظيف، وكيل الجامعة، موجوداً بنفس المكتب، فكرر عليَّ نفس الطلب السابق بأن يقوم بافتتاح المعسكر بنفسه ورددت عليه بنفس ردي على السابقين: فلست أنسى هذه الكلمة أبداً، قال لي: شرف عظيم يا بني أن أشارككم جهادكم».
كل ذلك لم يشفع له عند العسكر بعدما قامت ثورة 23 يوليو وشارك فيها الإخوان، غير أن العسكر انقلبوا على الإخوان وحلوا الجماعة في يناير 1954م، واعتقلوا مرشدهم حسن الهضيبي وعدداً من الإخوان، كان عاكف واحداً منهم، غير أنه استطاع الهروب، ثم اعتقل مرة ثانية في أغسطس 1954م بتهمة تهريب عبدالمنعم عبدالرؤوف وحكم عليه بالإعدام، ثم خُفف الحكم وظل حتى عام 1974م بعدما انتقل لكل سجون مصر وكانت له فيها مواقف كثيرة حيث كان قائد كل سجن يذهب إليه.
يقول عاكف: “في يوم 25 يوليو 1974م جاء وفد من المخابرات والبوليس السياسي أو أمن الدولة، وكانوا حوالي خمسة أفراد، ودخلنا على مدير الليمان واسمه اللواء علي موسى، ثم طلبوني أنا وعلي نويتو، وقالوا لي: يا عاكف، لن نفرج عنك إلا إذا كتبت لأنور السادات، فقمت دون أن أشعر وقلت لهم: اسمعوا، أبلغوا أنور السادات أن محمد عاكف يقول لك: إن الله سبحانه وتعالى خلقه حراً ولن يساوم على حريته، وإن الله خلق له عقلاً والعقل أمانة، والحاكم الشريف لا يساوم مواطنيه على حريتهم ولا على آرائهم، وانصرفت.
وفوجئت في اليوم التالي بعلي موسى يحضر مسرعاً ويقول لي: يا عاكف، مبروك إفراج، وكنا خمسة باقين في السجن من الإخوان، أنا وصلاح شادي، ومحمد سليم، وعلي نويتو، ومحمد العدوي”.
ومن المواقف التي جعلت العسكر يضعونه على رأس أولوياتهم في الاعتقال حادثة المطار، حينما حاولوا منع المستشار الهضيبي في المطار أثناء رجوعه من سورية كخطة معدة لاغتياله، فظهر مهدي عاكف وتوعدهم، وفي ذلك يقول: «أعددت سيارة غير سيارة المرشد، واستقبلناه وركب السيارة بجوار د. خميس حميدة، وركبت أنا في الأمام، لكنني فوجئت بمن يقول: إن عربية المرشد العام هي التي ستخرج فقط من المطار، فوقفت وقلت: عربية المرشد العام ستكون آخر سيارة تخرج من المطار، فجاء مدير أمن القاهرة (أحمد صالح) وأخبرته بأنه باقي دقيقتين وإن لم يخرج الجميع أنا سأفتح البوابة بالقوة، ففتحوا البوابة وقلت لجموع الإخوان: لا تتوقفوا لأي أحد حتى وصلنا المركز العام، وكان هذا هو السبب الرئيس في الحكم عليَّ بالإعدام».
خرج وعُين بوزارة الإسكان والتعمير، وسافر وتولى المركز الإسلامي بميونخ، وفي هذا يقول: “وفي يوم من الأيام فوجئت بسيدة ألمانية ومعها ابنتها تأتي للمركز الإسلامي وتطلب منى أن أجد لابنتها زوجاً مسلماً لما وجدته من حسن خلق ومعاملة المسلمين”.
هذه بعض المواقف من حياة مهدي عاكف - وهي كثيرة جداً -الذي كان ضيفاً على كل سجون الطغاة من الملك فاروق حتى توفاه الله، وقد اقترب من التسعين عاماً لكنه ظل ثابتاً راسخاً لم يهزمه مرض ولم يخفه عسكر ولا تهديدات نالت منه، بل أتعب هؤلاء حتى يئسوا من أن ينالوا منه فتركوه ومرضه للموت.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل