العنوان نحو منهج الإسْلام
الكاتب مجلة المجتمع
تاريخ النشر الثلاثاء 03-يونيو-1975
مشاهدات 134
نشر في العدد 252
نشر في الصفحة 32
الثلاثاء 03-يونيو-1975
نحو منهج الإسْلام
عاش المجتمع الإسلامي ما يقرب من قرن تحت وطأة الاستعمار- المادي والفكري- الذي سيطر على حياته سيطرة تامة حتى في شؤون الثقافة والتعليم والتربية.. أصبحت كل هذه الأمور في يده يكيفها كما يشاء لتخدم فكره الاستعماري، ولهذه الأسباب فقد هذا المجتمع مقوماته الإسلامية التي كانت ترفع من مكانة المسلم حيث آمن بالفكر الأوربي الاستعماري كبديل عن الفكر الإسلامي. معتقدًا أن الفكر إذا لم يكن من ثمار الرجل الأبيض لا قيمة له إطلاقًا ولا يحق لنا أن نطلق عليه فكرًا وإنما هو خرافة وخزعبلات. واليوم بعد مرور تلك المدة بدأ المجتمع الإسلامي يستيقظ من ذلك الجمود الذي يشبه الموت الذي لا حس فيه ولا تحرك ولذا لم يُقم لهم العالم وزنًا ولا يخشى لهم بأسًا ولا يتوقع منهم ضررًا ولا نفعًا واليوم نجد أن بعثهم من جديد يعني نبذ الحضارة الأوربية المادية. ودفعهم بعد ذلك إلى طريق العظمة والمجد الذي أهملوه. لأن تلك الحضارة قد أثرت في هذا المجتمع وقضت على تصوراته الإسلامية وتركته يعيش في غفلة عن تاريخه المليء بأحداث البطولات. واليوم يرى هذا المجتمع- بعد أن أصبح كل شيء واضحًا أمامه- واجب العودة إلى روافد الإیمان الذي مظهره الإسلام، ويرى التمسك بالتشريع الإسلامي الذي يغنينا عن كل شيء ويخلصنا من التبعية لمناهج بعيدة عن قيمنا والتي أقرها الإسلام، وأن القوانين الوضعية لم ولن تستطيع أن تلبي الحاجة البشرية لأنها وضعت بمفهومات بشرية قاصرة ومحرفة عن واقع الإيمان. أما منهج الإسلام فهو الحل الوحيد لمعالجة المشاكل المعاصرة ويستطيع أن يصون هذا المجتمع من الانحرافات الخلقية والسياسية والاقتصادية ويعيده إلى حظيرة المجتمع الإسلامي الذي يتميز عن المجتمعات الأخرى والذي حمل أمانة الإسلام منذ فجر الإسلام وما زال يحملها إلى أن تقوم الساعة وهذه الأمانة إذا قام بها المسلم خير قيام وبذل كل ما يملك في سبيل ذلك استطاعت أن تسعد البشرية وتهديها إلى طريق الخير وكذلك الذي حمل رسالة الإسلام يجب عليه أن يعيش دائمًا يقظًا ليدافع عن هذه العقيدة الإسلامية- التي هي أمانة في عنق كل مسلم- في كل مجال من مجالات الحياة ولا يجوز أن يتسم بالسكوت وهو يرى الحق ماثلًا أمامه مستغيثًا به «والساكت عن الحق شيطان أخرس» والقيام بواجب الدفاع عن هذا الدين يجعل منه مسلمًا مبدئيًّا حيث إنه يؤمن بالمبادئ الآتية:-
أ ــ عدم التركيز على الناحية المادية فهو يحارب هذا الاتجاه عن وعي لأن المادة إذا أصبحت هي كل شيء عند المسلم جردته من الإسلام ونزعت الرحمة من قلبه التي هي صفة من صفات الرحمن «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء».
ب - حماية العقيدة من المؤامرات التي تحاك ضدها من أعداء الإسلام الذين يظهرون صداقاتهم للمسلمين في كل مجال من مجالات الحياة وفي نفس الوقت يضمرون للإسلام شرًّا في الخفاء ولا يمكن دفع هذا الشر إلا إذا كان المسلم واعيًا بسلوكهم وتصرفاتهم التي تخلو من وازع الضمير.
ح- حماية الضعفاء من عسف الأقوياء لأن الإسلام كان دائمًا نصير الفقراء.
د – دفع الظلم مهما كان نوع هذا الظلم طبقًا للقاعدة «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا».
ه - إقامة القسط والعدل بين الناس دون تمييز لأن الإسلام جاء رحمة للعالمين.
و - محاربة الشر والفساد في أوساط المجتمع.
هذه المبادئ هي جزء من المبادئ التي نادى بها الإسلام لإنقاذ البشرية من الهلاك الذي كان ينتظرها بسبب الانحلال الذي قضى على مقوماتها وقضى على حرية الفكر والعقيدة، والإسلام جاء ليسلم هذه المهمة للمسلم لأنه هو الوحيد على وجه الأرض الذي يستطيع أن
يقوم بحماية هذه المبادئ التي تتمثل في القيم الإنسانية، حيث إنه أمين عليها لأنه ينضوي تحت لواء الأمة الإسلامية التي نعتها الله بأوصاف يجب أن يتمسك بها حتى تكون جزءًا من سلوكه ولا يتخلى عنها مهما كلفه ذلك ثمنًا غاليًا.
قال تعالی: ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ (آل عمران: 110)، وقال: ﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ (البقرة: 143).
بهذا نجد أن المجتمع الإسلامي يتميز بنظام خاص يخالف كل الأنظمة الوضعية، وعلى الذين يريدون له أن يذوب في أنظمة المجتمعات الأخرى قاصدين من وراء ذلك أو مدعين تقدم هذا المجتمع حضاريًا وتكنولوجيًا بعيدًا عن مبادئه السامية، هؤلاء يخطئون ويجنون على إسلام بتفكيرهم هذا، ولا يعرفون هذا المجتمع ولا عن منهج الإسلام شيئًا، وحكمهم وتصرفهم على هذا الأساس يدل على جهلهم وغبائهم، والبسطاء تجرفهم هذه الدعاية المستوردة نظرًا لعدم وعيهم بدينهم الإسلامي، مع أن الإسلام كان دائمًا دين التقدم والحضارة، ودين التعقل، أي دين التفكير، وصدق الشاعر الذي يدافع عن الإسلام بهذه الأبيات الرائعة:
يقولون في الإسلام ظلمًا بأنه
يصد ذويه عن طريق التقدم
فإن كان ذا حقًا فكيف تقدمت
أوائله في عهدها المتقدم
وإن كان ذنب المسلم اليوم جهله
فماذا على الإسلام من جهل مسلم
لقد أيقظ الإسلام للمجد والعلى
بصائر أقوام من المجد نوم
ماذا نقول بعد هذا لهؤلاء البسطاء الذين يعيشون في وادٍ والشريعة الإسلامية في وادٍ آخر مع العلم بأن هذه الشريعة لم تكن في يوم من الأيام القائلة بعزل المسلمين عن ركب الحضارة والتقدم لتحول دون تطور المسلمين أمام أعدائهم، وهذا رسول الله ﷺ يقول موجهًا حديثه إلى المسلمين: «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، يقصد من هذا أن ينظم المسلم حياته بالأسلوب الذي يراه أفضل في نظره ويظهره بمظهر أفضل، مراعيًا في ذلك مبادئ الإسلام التي تحكم سلوك الفرد في إطار معين، والتفكير بهذا الأسلوب دفع المسلمين نحو هذا التقدم ولذا استطاع هذا المجتمع أن يخضع الدول العظمى في ذلك العصر لصالح الإنسانية التي كانت معذبة تحت كابوسه الاستعماري- الرومي - الفارسي - حتى قضى على تغطرس تلك الدول ومنح الشعوب التي كانت تعيش تحت كابوسها الحرية الكاملة تحت لواء الإسلام الذي يحميها من الظلم ويسير على قاعدة ثابتة لا تتغير «لا إكراه في الدين»، ولهذا سارعت الشعوب إلى الإسلام من تلقاء نفسها، حيث تخلصت من كابوس الاستبداد والسيطرة والتشريد الذي كان سيفًا مسلطًا على رقاب العباد، وذلك لما يحمل هذا الدين من مبادئ تحافظ على كرامة الإنسان مهما كان اعتقاده ولذا انضوى سكان العالم تحت راية «لا إله إلا الله محمد رسول الله» لأنهم تخلصوا من عبودية البشر وتحولوا إلى عبادة الله الذي خلقهم من العدم، هذا هو الإسلام الذي رفع من مكانة تلك الأمم ماديًا ومعنويًا بخلاف ما يشاع، وإلا كيف استطاع هذا المجتمع أن يصل إلى القارة الأوربية دون أن يحمل عقلية التقدم؟ كيف استطاع الإنسان العربي الذي عاش في هذه الصحراء القاحلة والقاسية أن يتصل بتلك الأمم وينتزع الإنسانية هناك من كابوس الجهل والغوغائية؟ وكيف استطاع أن يبني حضارة عريقة لا تطغى فيها المادة على الروح وبالعكس؟
وإنما تسير المادة مع الروح جنبًا إلى جنب حتى لفتت تلك الحضارة أنظار العالم، ومن معالم هذه الحضارة تأسيس جامعة علمية تقوم بتدريس العلوم الدينية والكونية والتي كان يفد إليها للتزود من معارفها طلاب العلم من أوروبا وغيرها، وإلى يومنا هذا يعترف بعض المفكرين في الغرب بهذا الفضل للعالم الإسلامي ولا يستطيعون ابتلاع هذه الحقيقة، بل لا يكتفون بهذا وإنما ينازعوننا أنساب علماء الإسلام الذين نسي العالم الإسلامي دورهم في تأسيس هذه الحضارة الإسلامية، وعلى سبيل المثال لا الحصر أقامت إسبانيا مؤخرًا تمثالًا (1) «لابن رشد»، ذلك العالم الإسلامي، في جامعة مدريد ونسبته إلى الجنس الآري، ونحن لا يهمنا أن يكون من أي جنس لأن الإسلام لا يعترف بهذه الفوارق، وإنما يهتم بجوهر العقيدة التي تربط بين المسلمين، وصدق من قال:
ما ضرهم من أن تفرق لونهم
فجميعهم فيما شرعت سواء.
ومنهج الإسلام قد عالج هذه المشكلة ولم يترك مجالًا للمترددين ولا المنقولين، ولم يكتف أعداء الإسلام بهذا بل جندوا أقلامًا مأجورة لترويج هذه البضاعة الرخيصة، وما الدافع إلى هذا التصرف يا ترى؟ إن الدافع يعتبر مجرد تعصب أم هناك دافع آخر تسعى هذه العناصر من ورائه إلى تحقيق شيء آخر ونحن نرجح هذا الدافع في ضوء الأمور الآتية: -
أولًا: احتكار كل معرفة إنسانية للجنس الأوربي وأن غيره لا يستحق أن يصل إلى هذه الدرجة من التفكير الذي هو من حق الرجل الأوربي.
ثانيًا: إلصاق الجهل بهذه الأمة بالفطرة ولذا لا تستطيع أن تنجب المفكرين أمثال ابن رشد وغيره من المفكرين الإسلاميين.
ثالثًا: إعطاء فكرة خاطئة وقاتلة في نفس الوقت لأجيالنا وطمس معالم الفكر الإسلامي الذي استولت عليه أوربا بعد سقوط الدولة الإسلامية في الأندلس.
رابعًا: قتل الطموح الفكري لدى أبناء الأمة الإسلامية وجعلهم عالة على الفكر الأوربي وعزلهم عن الفكر الإسلامي حتى أصيب الشباب الإسلامي بمركب النقص وفقد الإبداع في كل شيء حتى القوانين الوضعية ينقلها كما هي مع ما يوجد فيها من تناقض يخالف الشريعة الإسلامية في مواضع كثيرة، ولكن هذا لا يهم ما دام هناك فكر أوروبي وراء هذا التشريع.
خامسًا: التنكر لدور العرب المسلمين الذي أنار لهم الطريق إلى هذه الحضارة حتى نسبوا هذا الفضل لأنفسهم. وقطعوا كل علاقتهم بحضارة الإسلام حتى رفضوا مجرد إشارة إلى تقدم الإسلام الذي تشهد الإنسانية آثاره إلى هذا اليوم في الأندلس. ومع ذلك ومهما حاول أعداء الإسلام أن يطمسوا معالم الإسلام لم ولن يستطيعوا لأن ضياء الإسلام لا يمكن أن تؤثر عليه شمعة يطلقون عليها حضارة أوربا والعالم الحر. والشيء الوحيد الذي يؤلمنا أن الإسلام لم يجد من يدافع عنه ويبرز هذه الحقائق أمام الرأي العام العالمي وكل من لجأ إلى هذا الأسلوب في الدفاع عن الإسلام اتهم بالخيانة الوطنية وبالرجعية التي أصبحت القيثارة الوحيدة على ألسنة الذين يدعون التقدمية فلنسأل الأوربيين وخاصة المفكرين منهم والذين يسيرون دون هدى في فلكهم: أين كانت حضارتكم عندما ازدهرت الحضارة الإسلامية في جنوب أوربا؟ وإلى أي حد كان تفكيركم ناضجًا؟ وما أسلوب تفكيركم للحياة؟
نأخذ الإجابة على هذه الأسئلة من أحد تلامذة ابن رشد. ليضع أمامنا تفسير الواقع للحياة التي كانت تعيش فيها أوربا فيقول: «عندما عاد الذين نفروا للحصول على العلم والمعارف الإنسانية في المعاهد الإسلامية في الأندلس وجدوا في بريطانيا وفي أعرق جامعات العالم آنذاك أمورًا بعيدة عن التعقل والوعي ولا يمكن أن يلجأ إليها إنسان يحمل بصيصًا من الوعي والمعرفة. شاهد هؤلاء العائدون من معاهد الإسلام أن الطلاب في جامعة أكسفورد ما زالوا يتجادلون في أمور تافهة.. مشكلة استحمام هل يجوز أم لا يجوز؟
هذه شهادة أبنائهم الذين لم يتشبعوا بأفكار إسلامية وإنما نهلوا من معارف الإسلام الدنيوية وهذا يدل على أن الإسلام- الذي هو دين ودولة- يعتبر رسالة عالمية جاء لرفع كابوس الجهل عن الإنسانية دون تمييز. إذن أين كانت حضارتهم في هذا العصر؟
إنهم كانوا يعيشون دون حضارة في ظلام من الجهل والتخبط بينما كان المجتمع الإسلامي يعيش كأرقى مجتمعات في ذلك العصر والسبب الذي دفع إلى هذا التقدم بهذا المجتمع هـو منهج الإسلام الذي جعل التفكير في الكون فريضة على كل مسلم ومسلمة ولذا رفع من مكانة المسلم فكرًا وروحًا حيث إنه لم يكن من عند البشر إنما كان من صنع الخالق الذي أراد للبشرية خيرًا حتى لا تفقد توازنها وتنهار وهذا عين ما حدث بالنسبة للدولة الإسلامية التي ازدهرت وحكمت ما يقرب من نصف العالم بهذا المنهج الواضح المستقيم- عندما كانت في رجال الإسلام ثقة بهذا التشريع- الذي شعرت فيه الشعوب بنسيم الحرية تهب إليها.
وكانت تلك الدولة المترامية الأطراف تُوَجّه من خليفة الإسلام في المدينة أو غيرها من عواصم الإسلام فيما بعد دون أجهزة التجسس والرقابة وذلك في وقت لم توجد فيه المواصلات السلكية واللاسلكية ولكن كانت هناك أجهزة الضمائر الحية التي تراقب الخالق في تصرفاتها لأن الإيمان كان يملأ قلبها وملتزمة بطاعة الحاكم التقي الصالح، فالمسلم الواعي بمنهج الإسلام كان يعرف أن طاعة أولي الأمر واجبة ما دام الحاكم يسير طبقًا لمنهج الإسلام وعالم في نفس الوقت، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم» ولكن تغير هذا الموضع عندما رفعت الثقة بمنهج الإسلام. فقدها الحاكم قبل أن يفقدها المحكومون وتداخلت في النفوس نوازع مستوردة تمثلت في الشعوبية آنذاك حيث هجر الإسلام كمنهـج للحياة وأصبح منهج عبادة وطقوس، ولذا فقد المسلمون توازنهم وظهر فيهم التخبط في تصرفاتهم ولذا أصبحوا فريسة لأعداء الإسلام الذين استغلوا فيهم هذه الناحية ليمزقوا وحدتهم التي كان أساسها شعار «لا إله إلا الله محمد رسول الله» شكلًا ومضمونًا، وصدق المشاعر العربي الذي آلمته هذه الحالة التي آلت إليها الأمة الإسلامية عندما قال:
تفرقوا شيعًا فكل قبيلة فيها
أمير المؤمنين ومنبر
هذا ليس تاريخ الإسلام وإنما إشارة من بعيد إلى ذلك التاريخ الضخم في الماضي.
آن للمسلمين أن يفكروا مليًا في هذا التاريخ ويقوموا بدراسة تاريخهم لمعرفة ما فيه من الإيجابيات والسلبيات نظرًا للظروف التي مرت بالشعوب الإسلامية وأن الإسلام بقي إلى الأبد ولا يمكن أن تؤثر فيه سلبيات المجتمعات التي أضمحلت لابتعادها عن الإسلام.
المطلوب اليوم من المفكرين والكتاب الإسلاميين أن يبذلوا جهدهم للكتابة في هذه الحقيقة، وأن يبينوا للعالم مزايا هذه الشريعة السمحاء التي صنعت هذا المجتمع الإسلامي ورسمت له طريق العز والكرامة تحت مظلة الإسلام، ولذا نجح في الحياة حيث سار في ضوء ما رسمته هذه الشريعة لأنها شريعة لم تكن من صنع البشرية، أما الشرائع الوضعية التي تجري بفهم أو بغير فهم أرضعنا إياها الاستعمار بعد أن صنعها بنفس التفكير وبنفس النشاط عندما وضعوا شريعة الغاب لإعمار العالم بأسلوب ظاهره الرحمة باطنه العذاب.
وغزوا البلاد الإسلامية بعد أن جاؤوا بشعار «الدين لله والوطن للجميع»، ليفرقوا بذلك وحدة المسلمين بواسطة علمائهم، ولا ننكر أن المفكرين الاستعماريين بذلوا في هذه القوانين عصارة فكرهم ليقوموا بالتعديل، فنابليون الذي غزا مصر مع الحملة أخذ ما في المكتبات، وعلى كل حال مهما كان هذا الجهد المبذول فهناك دوافع بشرية ترمي إلى المصلحة الشخصية، ولذا لا يمكن أن يراعي مثل هذا القانون الضعفاء والفقراء كما لا يراعي حالة المظلوم، حيث يترك الظالم يتحكم في رقاب الصياد بشريعة الغاب التي تجعل الحق باطلًا والباطل حقًا، كيف تستطيع هذه الشريعة أن تصنع مجتمعًا مثاليًا تذوب فيه الفوارق؟ وتخفى فيه النزعات البشرية؟ هذه الشريعة لا تستطيع أن تفعل شيئًا في هذا المضمار مهما جندت العقول البشرية بأسرها، ولهذه الأسباب نطالب بعلاج ناجح لهذه الأمراض التي تعاني منها البشرية وخصوصًا المجتمعات الإسلامية التي أصيبت بوصمة عار بهذه التبعية العمياء لأفكار غير إسلامية.
ونحن الشباب يحق لنا أن نوجه هذا النداء.. إن الإسلام اليوم في حاجة إلى الذين يحملون لواءه وينضوون تحت منهجه ويدافعون عنه بكل ما يملكون من قوة، وليس في حاجة إلى الذين ينتسبون إليه ببطاقة الميلاد أو يجاملون المنحرفين في تصرفاتهم، دون أن يعوا عن الإسلام شيئًا ولا يعرفون عن واجبهم شيئًا نحو الإسلام، فالمجتمع الإسلامي في عهده الأول كان يعيش دائمًا يقظًا حي الضمر مستنير العقل ويقوم بتطبيق مبادئ الإسلام على نفسه وعلى أسرته وبهذا الأسلوب يقنع من حوله بالإسلام حتى نجح في الحياة وصان أفراده من الانحراف، والشباب اليوم يطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية في كل مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية ولكن علينا أن نسأل أنفسنا هذا السؤال:
كيف نستطيع أن ننجح في توعية الشباب وهو يعيش في هذه الحالة التي يتألم ألمها كل مسلم من عدم الوعي بالإسلام، فالشباب تائه وراء كتب مدرسية تشابه إلى حد كبير كتب المطالعة وكتب رحلات سندباد، وهذه الكتب كما هو معروف عنها لا تحمل أي فكرة عن الإسلام إلا سرد الآيات القرآنية دون فهم ولا تذوق لمعاني هذه الآيات بما فيها من الأحكام، وبعض شبابنا يقرأ كتبًا أخرى بإسهاب سواء أكانت شيوعية أم وجودية أم رأسمالية، ونجدها مكتوبة بأسلوب شيق للاطلاع تناسب عقله وتتفق مع دوافع الشباب المندفع إلى ضجيج الحياة، وهذه القراءة تترك أثرها العميق في أفكار شبابنا حتى يصير تبعًا لهذا الفكر ولا يستطيع أن ينفك عنه ويتعامى بعد هذا عن كل ما هو إسلامي.
إن المسلم مكلف مهما كان وعيه بأن يقوم بهذه الدعوة في أوساط الشباب والعمال، ولا يعتبر هذا النشاط تطوعًا منه حتى يتسنى له أن يتركه إذا أراد أن يتهاون فيه، وإنما هذا النشاط واجب عين مثل الجهاد عندما يصبح عرضًا لأنه ميدان من ميادين الجهاد فيه صراع فكري بين الحق والباطل، ومن الواجب على المسلم أن يقوم بطمس الباطل طبعًا لقاعدة الإسلام «تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر» «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده... إلى آخر الحديث».
ونحن نطالب المسئولين عن الشباب في العالم الإسلامي أن يركزوا في هذه الناحية الحيوية وأن يقوموا في نفس الوقت بتبسيط هذه الشريعة للشباب، وخصوصًا رجال القانون الذين هم أكثر تكليفًا عن غيرهم وهم أجدر الناس بتبسيط هذه الشريعة، ومن الواجب الاعتراف بكفاءتهم في هذه الناحية حتى يتسنى للشباب الضائع فهم مزايا هذه الشريعة دون أن يرهق فكره في البحث عن استخراج أحكامها.
أما ما نراه اليوم من اهتمام المسلم بالناحية المادية من الحياة بعد أن أعطى ظهره للنواحي الفكرية فقد فرضته عليه ظروف الحياة المحيطة به، هذا الاتجاه يستغله أعداء الإسلام ليسيطروا على أفكار شبابنا ليصوروا لهم الإسلام بأنه يهمل الحياة المادية نهائيًا ويجري وراء الحياة الروحية ويدعو إلى التأخر.
وأخيرًا، إن الإيمان بالدين مبني عند المسلم على أساسين ثابتين:
أولًا: على الرغبة فالمسلم يعمل الخير ليجد الثواب، جزاء عمله هذا ويدخل الجنة فلذلك كل عمل يقوم به في هذه الحياة يعرضه على منهج الإسلام الذي يقول:
﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ﴾ (التوبة: 111)، فرغبته هي أن تكون بضاعته رائجة عند الله.
ثانيًا الرهبة: يخاف المسلم دائمًا عقوبة الله ويخاف نار جهنم التي هي أشد حرًا من نار الدنيا ويراعي في سلوكه هاتين الناحيتين وبين الرغبة والرهبة تصلح الأمور وتستقيم النفوس وتحيا الضمائر وتتفق العقول بأفكار خيرة.