العنوان نظرات اقتصادية في سورة البقرة (5): تسخير الكون للإنسان
الكاتب د. أشرف دوابه
تاريخ النشر السبت 01-أكتوبر-2022
مشاهدات 5
نشر في العدد 2172
نشر في الصفحة 58

السبت 01-أكتوبر-2022
- الحياة تحتاج إمدادًا من الخالق للمخلوق حتى تستمر وهي نعمة تستحق الشكر لا الكفر.
- تسخير الله تعالى ما في الأرض من أجل الإنسان نتاج تكليفه لأمر عظيم وهو الاستخلاف.
- الإنسان في تعميره للأرض لا يخلق شيئًا لكن دوره إضافة المنفعة سواء كانت شكلية أم مكانية أم زمانية.
تناولنا في الحلقة السابقة من سورة "البقرة" بيان الغرض من الخلق، مع ربط ذلك بدورة النشاط الاقتصادي من إنتاج وتوزيع واستهلاك، وتصوير حركة النشاط الاقتصادي قبل وجود البشر على الأرض بما ييسر لهم سبل العيش، فضلًا عن إبراز الانتقال من نعمة الخلق والإيجاد إلى نعمة الفراش والمهاد ونعمة السماء كالبناء، ثم إلى نعمة الأمن الغذائي الذي به تقوم الحياة، إضافة إلى لفت النظر إلى أن الرزق للذين آمنوا وعملوا الصالحات ليس في الدنيا فقط، بل في الآخرة أيضًا، وكذلك بيان قيمة ومكانة ضرب الأمثال للتقريب والبيان ولله المثل الأعلى، باعتبار ضرب الأمثلة يقرب الصورة ويزيدها وضوحًا، وهو من أشد الأساليب تأثيرًا في النفس وإقناعًا للعقل.
بعد أن تناول الله سبحانه وتعالى في آيات سابقة ما يدل بأدلة قاطعة على أنه عز وجل خالق السماوات والأرض وخالق الناس، تأتي هذه الآيات توبيخًا أو تعجبًا من سلوك الذين يكفرون بالله تعالى، وتأتي بمزيد من الأدلة الأخرى التي لا يستطيع أحد أن ينكرها أو يكذبها امتدادًا لسابقتها، فيقول سبحانه: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {28} هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة).
فالله تعالى هو من جاء بهذا الإنسان الذي يمثل رأس المال البشري من عدم، وسخر له الكون تسخيرًا، ومع ذلك يقابل ذلك بالكفر والنكران.
إن سجل حياة الإنسان كلها فتحًا وطيًا ذكرتها آية كريمة قصيرة بصورة حية تبرز حقارة الدنيا وتفاهتها وما عند الله خير وأبقي، وسعادة المسلم في أن يعيش في الدنيا سعيدًا، وتكون خاتمته سعيدة؛ فينعم بجنان الرحمن، وهذا هو هدف علم الاقتصاد.
بين الغيب والشهادة:
والاقتصاد الإسلامي يجمع بين عالم الشهادة وعالم الغيب، والذين ألحدوا أو سلموا الحياة لعقولهم وأنكروا الغيبيات لا يمكن أن ينكروا أن الموت نهاية كل إنسان، والله تعالى هو من تحكم في الخلق إيجابًا؛ فخلقهم من تراب ومن طين ومن حمأ مسنون، ثم نفخ فيهم من روحه وكتب لهم الحياة، ومن ثم فهو من يتحكم في الخلق موتًا عند انقضاء الأجل فتخرج من الجسد آخر ما دخل فيه وهو الروح، ثم يتصلب الجسد ويصبح كالحمأ المسنون، ثم يتعفن فيصبح كالصلصال، ثم يتبخر منه الماء فيعود ترابًا، وبذلك يكون الموت نقض صورة الحياة عكس مراحل الحياة، ثم يأتي إحياء الناس يوم القيامة، فالإنسان في رحلة الحياة من الله وإليه.
ويذكر سبحانه أن الإنسان الذي هو ملاقيه وإليه يرجع لا محالة سخر له ما في الكون لخدمته، فالحياة تحتاج إمدادًا من الخالق للمخلوق حتى تستمر، وهي نعمة تستحق الشكر لا الكفر، والحياة رحلة متروكة بالموت؛ لذا فكل ما سخره الله للإنسان ويبذل فيها جهدًا ويتملكه ليس إلا ملكية مؤقتة أو مجازية تعود بعد وفاته لغيره، فالمالك الحقيقي للكون وما فيه هو الله تعالى.
وفي الآية إشارة لطيفة ونص لدليل قطعي على القاعدة الفقهية المعروفة أن "الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة"؛ أي إباحة الانتفاع بها أكلًا وشربًا وملبسًا وتداويًا وركوبًا وزينة، ولا يحق لمخلوق أن يحرم شيئًا أباحه الله لعباده تدينًا به إلا بوحيه وإذنه؛ (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلًا قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ) (يونس: 59).
إن الله تعالى خلق للإنسان ما في الأرض جميعًا بكل أجناسها ومواردها وبرها وبحرها من حيوان ونبات وجماد، وقوى وطاقات، وكنوز وخامات تسخيرًا للإنسان، وابتدأ هذه الآيات بعظيم النعم وطلب من عباده السعي والعمل، وجاءت كلمة "لكم" لتعكس أن تسخير الله تعالى للإنسان ما في الأرض من أجل الإنسان هو نتاج تكليفه لأمر عظيم وهو الاستخلاف باعتباره سيد الأرض بإعمارها، وليس عبدًا للآلة أو المادة كما فعلت النظم الاقتصادية الوضعية، وبذلك يكون التسخير استقواء للطاعة وصرفًا عن المعصية، في وجوه البناء والتعمير لا الهدم والتدمير.
موارد الأرض كافية:
والإنسان في تعميره للأرض لا يخلق شيئًا، ولكن دوره إضافة المنفعة سواء كانت شكلية أم مكانية أم زمانية؛ فهو يضع البذرة التي هي من خلق الله في أرض الله وتروى بمطر من عند الله، وهو يتعهدها بالرعاية والري فتخرج ثمرتها بإذن الله تعالى، وهذا التعهد ليس فيه خلق لشيء، ولو كان الإنسان يزرع بقدرته فليأت ببذرة وأرض وماء من غير خلق الله؛ (أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ {63} أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (الواقعة)، وحتى الاختراعات الجديدة التي ابتكرها الإنسان فإنها إن كانت خلقًا فإنها خلق من موجود وليس من عدم، فالله تعالى هو الذي خلق كل ما في الكون من عدم.
كما أن ما في الأرض من موارد هو كاف لحاجات البشر، وهذه الموارد منها ما هو مطمور حتى يبذل الإنسان جهدًا ويكتشفها لتؤدي دورها في الحياة، وعلى قدر الجهد يكون الجزاء، وهذا ينفي نسبة المشكلة للخالق، تعالى الله عما يقولون؛ بل هي بفعل المخلوق الذي سخر له ما في السماوات والأرض جميعًا له حجة عليه للسعي ليكون لله عبدًا كما خلقه عبدًا، وليس كل شيء غائبًا عن البشر يعني أنه غير موجود؛ بل هو موجود حتى يتم اكتشافه، وهو من خلق الله وليس المخلوق الذي دوره لا يتعدى بذل الجهد للوصول إلى تلك الموارد.
ويأتي قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ليعكس أن فهم الإنسان له حدود، فكل شيء متعلق بذات الله يتجاوز قدرات العقول، فهي قاصرة ولا يمكن أن تحيط علمًا أو إدراكًا بذات الله، فالله تعالى ليس كمثله شيء، وهو بكل شيء عليم، فلا تغيب ذرة من ملكه عن علمه، والكون كله يسير بإذنه ومراده.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل

