العنوان الخير في الأولين والآخرين
الكاتب د. جاسم المهلهل آل ياسين
تاريخ النشر الاثنين 01-فبراير-1999
مشاهدات 14
نشر في العدد 1335
نشر في الصفحة 66
 
                                    
                                الاثنين 01-فبراير-1999
نقوش على جدار الدعوة
قد يكون الجيل الأول – في أي دعوة – هو جيل الحرث والغرس والبذر، الذي يعمل بهمة ونشاط في حقل الدعوة ليستطيع الوقوف في وجه التيارات المضادة، ثم يستطيع السير في غير مجاريها، وهذا أمر صعب لأنه يواجه واقعًا ألفه الناس، بحيث يصعب عليهم تغييره، بل قد تجد من بينهم من يقف محاربًا للداعية الذي يناديهم (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ ) (الأحقاف: ٣١) فيلقى منهم كل اعتداء وتلقى دعوته كل تشويه وازدراء.
قد يعاني الجيل الأول للدعوة كل هذه المعاناة أو بعضها، وقد تعاني كذلك أجيال تأتي متعاقبة بعد هذا الجيل، أو تأتي غير متعاقبة، فالمعاناة وإن حظى منها الجيل الأول بالنصيب الأوفى لا يخلو منها جيل من الأجيال على نطاق كبير أو صغير، لأن الجميع يحاول البناء، ويحاول أن يكون له في الدعوة نصيب، غير أن نصيب الأجيال الأولى من البناء أوفر وأعظم، فبعد أن تستقر مبادئ الدعوة إلى الله وتقوى جذورها، ويثبت رجالها، وينتشر بين الناس خبرها، يقدم عليها الناس أفواجاً، وقد يكون قدومهم في غير الجيل الأول أو الذي يليه، لأن الأجيال التالية تأتي فتجد الأرض مهيأة، والبذر موجودًا، والمياه وافرة، وما عليها إلا أن تبذل أقل الجهود لتثمر الأرض – أرض الدعوة – أعظم الثمار.
إننا نستطيع أن نشبه الدعوة بمزرعة سمكية تعطيك من الصيد بمقدار ما تضع فيها من صغار الأسماك، التي تتعهدها بالحفظ والصيانة والتغذية والتنمية، والحراسة من اللصوص والآفات والأخطار، حتى يكبر صيدها، ويزيد محصولها، ويكون له عائد نافع مفيد، حينئذ يستطيع الصائدون أن يستخرجوا منها ما يشاؤون من أسماك متعددة، أما قبل ذلك فلا يكون المحصول وفيراً، فما بالك إذا لم نضع في هذه المزرعة سمكًا صغيرًا، أو أهملناه بعد أن وضعناه، أو غفلنا عنه حتى سرقه اللصوص وسرت فيه الأمراض، أو تركنا الماء حتى جف، عندئذ لن تجد سمكًا ولن تجد شيئًا وسيضيع المحصول.
والمجتمع هو هذه المزرعة، كانت نفوس الأولين فيه طيعة، لأن المعاصي لم تكن قد تغلبت عليها وتعمقت في طواياها، فكان محصول الدعاة وفيراً، أما اليوم فإن الفساد قد كثر وطغى ودخل إلى كل بيت عن طريق أجهزة الإعلام الحديثة، وعن طريق الترف الذي يتيح لأي إنسان أن يشتري ما شاء من أجهزة، فاستحكم الشر وتغلغل الضلال، فقل محصول الدعاة من اكتساب العاملين وصاروا محتاجين إلى جهد عظيم وعناء كبير، حتى يثمر عملهم ثمراً قليلاً، قد يستصغره الناظرون فهل الخير في الأوائل من الدعاة أم في الأواخر؟
هل الخير الأوفر في الذين مهدوا الأرض وأعدوا البذر، وقاوموا الآفات القاتلة والأمراض التي تؤخر النماء، وكانوا حراسًا يقظين، فأثمرت الأرض على أيديهم وأيدي من بعدهم ثمارًا كثيرة، أم الخير في الآخرين الذين حافظوا على ما ترك الأولون برغم كثرة الطامعين، وإعاقة المعوقين وتهديد الأشرار الظالمين، مما جعل إنتاج هؤلاء يبدو قليلاً؟
إن الإجابة نستطيع أن نجدها عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: «أمتي كالمطر، لا يدرى أوله خير أم آخره» (أخرجه الترمذي (2869) واللفظ له، وأحمد (12327)، إن الخيرية ليست قاصرة على الأولين، ولن يحرم منها الآخرون، لأن الله سبحانه يعطي الأجر على النية والقدرة: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» (صحيح البخاري) (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: ٢٨٦)، فكل من يصلح نيته، ويبذل بحسب قدرته، فله عند الله الأجر الباقي الذي لا يزول ولا ينقد (مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ۖ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ) (النحل: ٩٦) وسواء في ذلك أن تثمر أعماله الكثير أو تثمر القليل، إذ ليس للإنسان إلا ما سعى، والرسول أخبر أن النبي يأتي يوم القيامة ومعه الرهط والنبي ومعه ثلاثة، والنبي ومعه اثنان، والنبي وليس معه أحد، والمهم أن يعمل الإنسان ما استطاع، وألا يدخر في سبيل الدعوة وسعاً، وله من الخير نصيبه – إن شاء الله – سواء أثمرت جهوده الكثير أو القليل، مادام قد صحت عزيمته وسمت إلى العمل همته.
إن النظرة يجب أن تنصب على العمل نفسه لا على العاملين، ولا على مدى الثمرة التي يجنونها من أعمالهم، وقد عرف القدماء من أسلافنا ذلك حين قالوا: اعرف الحق تعرف أهله، وحين قالوا: إنما يعرف الرجال بالحق، ولا يعرف الحق بالرجال، وهي نظرة صحيحة لقياس الأعمال، ولقياس العاملين، فالالتزام بالحق والعمل به والدعوة إليه، ومحاولة نشره بين الناس هي الغاية التي يجب على الأولين والآخرين السعي نحوها وتحقيقها، وقد يثمر عملهم هذا كثيرًا من النتائج، وقد لا يثمر إلا القليل، وسواء كان هذا أو ذاك فلا لوم على العاملين، ولا تثريب إلا على المتكاسلين المفرطين.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل 
         
         
         
                