الثلاثاء 17-نوفمبر-1981
وقع نبأ استشهاد الأخ كمال السنانيري على نفوس أحبابه موقعًا أليمًا... ولا أقول عجيبًا... فقد كان رهن التحقيق في أيامه الأخيرة ... التي ودع فيها الحياة... ولذلك لم نعجب لما سمعنا ونشرته الصحف عن سبب استشهاده الذي عزته إلى إسراف سلطات التحقيق في تعذيبه؛ لأنه لم يقدم لها الولاء لشخص الرئيس الراحل وعهده، فلما أبى ذلك، قامت زبانية السلطة باستخلاص روحه من جسده حين عجزت عن استخلاص الباطل من طرف لسانه وحينما ذهبت إلى عزاء شقيقه الأخ سعد السنانيري، بدأ في تجلده ما أذهب عن نفسي ثقل المصيبة، وكأنه أدرك مني ما أحرص على إخفائه عنه فبادرني بقوله:- «لا تحزن يا أخي!.. إن إحدى فتياتنا المؤمنات جاءت تصوب مشاعرنا في هذا الحادث فقالت: «كيف أعزيك في حي!، أليس الله جل شانه هو القائل في كتابه ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ (آل عمران: 169)
فكيف أعزيك فيمن يحيا عند ربه يطعمه ويرزقه ويسقيه»!... إنك جدير بالتهنئة؛ لأن الله شرفك بالانتساب إليه»!.
...وسعدت بإجابته!... ليس فقط لما أدركته من سكينة نفسه... ولكن لأني أعرف هذه الفتاة التي تحدث عنها الأخ سعد شقيق الشهيد، إنها في عمر الزهور ومع ذلك أدركت من نور الحقيقة ما يعجز عن إدراكه كثير من الشيوخ، وهكذا تعزيت مرتين... كانت إحداها في مقالة هذه الفتاة التي نبتت في محضن الدعوة التي عاش لها وبها شهيدنا الغالي... ولذلك ندرت هذه السطور لا للعزاء فيه... ولكن لأهنئ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بنور جديد وعزمة رشيدة أطلت علينا من علياء السماء لتردد لنا مقالة الحق تبارك وتعالى في كتابه عن ملائكته:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ (فصلت:30)
﴿ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾ (فصلت:31)
﴿ نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ﴾ (فصلت:32)
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ (فصلت:33)
أجل... صدقت يا أخي وصدقك رب العالمين... فليس أحسن من قولك وليس أكرم من دعوتك وليس أزكى من شهادتك.... ليس بدعًا أن يقتل الرجل في سبيل الله... فليست هذه محنة... ولكن تظل المحنة ماثلة فيمن يعيش من بعده!.. كيف نتجرد مثله؟...، وكيف نعيش على الكفاف كما كان يعيش؟ وكيف نصوم صومه؟، وكيف نقوم الليل كما كان يقوم؟ عاش حياته في سجون عبد الناصر مدى سبعة عشر عامًا لا يلبس إلا ثياب السجن الخشنة... وحتى الثياب الداخلية التي كان لكل سجين حق شرائها من مقصف السجن كان يرفضها لا لقلة من ماله وإنما كان يأبي إلا أن يعيش متجردًا من كل ما يعتبره ضباط السجن منحة توهب للسجين ترغيبًا أو يحرم منها ترهيبًا... فأثر رحمه الله أن يتجرد من كل ما يمكن أن يحرم منه، ليملك من نفسه ما يعجز الغير أن يملكه منه.... كان هذا مفتاح شخصيته... الزاهدة المتجردة وكان دأبه على هذا السلوك موضع عجبنا وإعجابنا!..
فقد كنا نأخذ أنفسنا بالرفق لنستطيع أن نتحمل مشقة الطريق الطويل الذي قدر الله لنا أن نسلكه، أما هو فقد كانت نفسه أطوع لديه من بنائه، فما عاد يحس بمشقة تدعوه إلى الرفق بها... ولذلك لم يكن غريبًا أن يأبى ما يطلبه منه ضباط السجن وضباط المباحث– طوال مدة سجنه– من تأييد نظام حكم عبد الناصر ليخرج من خلف الأسوار إلى دنيا الناس... بل ولم يشكل صموده في هذا الموقف صراعًا نفسيًا يدعوه إلى الحفاظ على زوجته الأولى حين امتدت به الأيام وثقلت بها تبعات الأعوام، فقد كان يرى– مع ذلك– أن الإبقاء على ربه أغلى من الإبقاء على بيته!.
كان كل من حوله يظن أنه حرم نفسه– بعزيمته الشماء– من كل متع الدنيا الحلال...
ولكن... عجز الشعور بالحرمان أن يمتد إلى قلبه الذي رددت نبضاته ما كان يقوله لسانه في مناجاة ربه «ماذا وجد من فقدك ؟، وماذا فقد من وجدك ؟!!.
وأخيرًا... لا أقول وداعًا لحبيبنا الشهيد الذي ترسم خطو رائد الدعوة الأول حسن البنا، فأراد الله أن يختم حياته بما اختتمت به حياة مرشده وصفيه وحبيبه... فدفن في قبره... بلا.. مشيعين!.
فقد خشيته أجهزة الحكم ميتًا كما خشيته حيًا!...
ولكن أقول: إن مآقينا قد جفت دموعها بعد أن بكته السماء، وحوله هذا الحشد من الشهداء الذين زفتهم الملائكة في عرسها الخالد إلى حيث البقاء الأبدي مع رفاقه الأحبة حسن البنا وعبد القادر عودة وفرغلي وسيد قطب ويوسف طلعت وإبراهيم الطيب... بل وهؤلاء الذين سبقوهم بالإيمان منذ بعثة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام ومنذ انبثقت شجرة التوحيد لتضفي على الكون ظلها وتعطره بريح الجنة!...
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل