; هل الصوم عبادة شخصية؟! | مجلة المجتمع

العنوان هل الصوم عبادة شخصية؟!

الكاتب أبو هالة

تاريخ النشر الثلاثاء 10-نوفمبر-1970

مشاهدات 24

نشر في العدد 35

نشر في الصفحة 22

الثلاثاء 10-نوفمبر-1970

هل الصوم عبادة شخصية؟!

لماذا يسكت الناس عن المفطرين

قال لي ولدي:

في إحدى أمسيات شهر رمضان المبارك، استأذن ولدي، ليقدم لي ثلاثة من أصدقائه الذين يدرسون معه كعهدي معه دائمًا أن أعرف أصحابه، وأن يعطيني ما يعلم عنهم من معلومات؛ كي أشترك معه في تقييمهم كإخوة على شاكلته في التدين والأخلاق والاهتمام ببناء شخصياتهم من كل نواحيها!!

أم كنوع آخر يحتاج إلى جهاد معه في الأخذ بأيديهم إلى الصراط المستقيم، لكن آثرت أن أنتقل إلى حجرته حيث يجلسون معه، وبعد التعارف والترحيب بهم، هممت بالانصراف، إلا أن أحدهم وقف بجرأة أحبها في الشباب ليقول:

- أما كنت على موعد مع ولدك بالإجابة عما أثاره أستاذنا للتاريخ من اعتراضات على الصوم كفريضة؟!

- قلت: بلى!!

- قال: أليس الوقت مناسبًا الآن يا عمي لتنفذ وعدك؟

وبدلًا من أن يكون لك ولد واحد، لك الآن أربعة أولاد!!

· ومن كل قلبي فرحت بهذا الطلب وقلت له:

ما أسعدني كأب الآن!!

وبكل سرور أقول:

- إن أول دعوى أثار غبارها الأستاذ ليحجب بترابها المصنوع !! وهج السلاسل الذهبية من خيوط شمس الحقيقة الإسلامية!! هي: «أن الصوم من الأمور الشخصية!!»، فتعالوا معي نجمع هذا التراب لنلقي به في أرض الحقيقة حيث مكانه الطبيعي.

أولًا: إن كل العبادات من صلاة وحج وزكاة، وكل عمل صالح في هذه الحياة ينبع من الفرد ويعود إليه ومداره كله على الذات !! كذلك كل معصية ترتكب من الفرد ويرتد إليه جزاؤها!!

ثانيًا: المجتمع مجموعة من الأفراد ترتبط مصالحها ببعض فأخلاق الفرد ومدى التزامها بالسلوك العام أو الخروج عليه تؤثر في المجتمع الذي يعيش فيه ويتعامل معه، رضي أم أبى!!

ثالثًا: إن الجريمة الخفية موکول حسابها على العالم بها وهو الله الذي يعلم السر وأخفى.

رابعًا: أما الجريمة التي تتحدى شعور الجماعة بالإيذاء، وتستهين بحدود الله، لا يمكن أن تسمى شخصية لأن الله رب الجميع لا رب الأستاذ وحده، والتبجح بعصيانه والتمرد عليه يوجب على عباده أن يقمعوا هذا المتمرد باستتابته وإلا قتله الحاكم المسلم لأنه مرتد عن دينه!!

خامسًا: حتى رجال القانون الوضعي يقولون «إن لكل مجتمع تقاليده وآدابه التي تعارف عليها الناس، ومن خرج عليها فهو خارج على المجتمع مستحق للوم أفراده» وقالوا في تبرير إصدار قانون العقوبات «من خصائص الحكومة أن تعاقب على الجرائم التي تقع على أفراد الناس بسبب ما يترتب عليها من تكدير الراحة العمومية».

سادسًا: إن المرض الشخصي إذا كان من الخطورة أن ينتشر فلا بد من حجر صحي على المصابين حتى لا تنتقل عدواهم وتؤثر جرثومة المرض في غيرهم!!

سابعًا: إن وباء العادات الضارة ينتشر في أول أمره، تقليدًا ثم يصبح إدمانًا، ولذلك كان العزل من طرق العلاج والنهي بالابتعاد من أساليب الوقاية !!

ثامنًا: شخصية الجريمة لا ينفي التجريم والعقوبة، فالفرد ليس ملك نفسه، بل ملك أهله وبلده وأمته، ولذلك كان اعتبار الانتحار جريمة!!

ولعل هذه الأسباب مجتمعة، وغيرها: مما يقصر دونه علمنا هي الحكمة حدیث رسولنا صلى الله عليه وسلم حيث قال فيما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل أمتي معافاة -أي يعفو الله عنهم ويغفر -إلا المجاهرين !! وإن من الإجهار أن يعمل العبد بالليل عملًا، ثم يصبح قد ستره ربه عز وجل فيقول: يا فلان قد عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، فیبیت يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه! »

قال ولدي:

أليس في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل: «كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» ما يشير إلى شخصية الصيام ولو من بعيد؟!

قلت له مبتسمًا:

أولًا: قال: الصوم ولم يقل الفطر!!

ثانيًا: إن نسبته إلى الله تكريم الصيام والصائمين ودليل على ارتباطه بالله الذي هو سبحانه رب الجميع وما يرضيه يرضينا وما يغضبه يغضبنا ولذلك كان الأمر النبوي ألا يغضب المرء إلا لله!!

ثالثًا: إن هذا الحديث يشير إلى وجوب إخلاص الصوم لله الذي يعلم ما جرحتم بالنهار، فيعلم المرائي المعلن على الناس الصيام وهو مفطر في الخفاء! فالدليل معي وليس معك!!

 ماذا تفعل الدولة مع المفطرين؟

قال ولدي: ماذا تفعل الدولة المسلمة إزاء المفطرين؟

قلت له: كانت هناك شخصية «المحتسب»، الذي يراقب تنفيذ الشعائر الإسلامية فيمسك المفطر في رمضان، إن كان مفطرًا جحودًا بفرضية الصيام وإنكارًا لشرعيته نفذ فيه حكم الشرع: الاستتابة وإلا فالقتل مرتداً!!

وإن كان غير ذلك عوقب بعقوبة تعزيرية!!

وما زالت بعض الدول اليوم تعتبر المجاهر بالفطر مرتكبًا جنحة أو مخالفة حسب قانون الجزاء فيها!!

قال ولدي:

- إذا كان هذا هو المفهوم الحقيقي للإفطار في نهار رمضان، فبماذا تعلل سكوت زملائه على فعلته الشنعاء هذه؟!

قلت له:

- لقد ابتليت الأمة الإسلامية في عصرها الحالي بالضعفاء، ممن يعرفون الحق یدارون أهل الباطل، اتقاء أذاهم وإيثارًا للسلامة العاجلة!!

- وابتليت بنوع آخر من اليائسين الذين رأوا القمم تهوى أمامهم، والأمجاد تذوي أمام عيونهم، وقلاع الحق تنهار صخورها صخرة صخرة وعرى الإسلام تنفك عراها عروة عروة، فنزلوا منحدرين بطريق آخر، حتى التقوا مع الهادمين النازلين !! قال ولدي:

 أحسب أنه من أجل هذا النوع ما عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله «لا يكن أحدكم إمعة !! يقول: إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم أن أحسن الناس أن تحسنوا وأن أساءوا أن تحسنوا»

 قلت له: بل ما عناه كذلك رسولنا عليه السلام بقوله «الساكت عن الحق شيطان أخرس» وعالج هذا الوضع ربنا عز وجل بقوله:

﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ (سورة آل عمران: 104).

واستحق بنو إسرائيل اللعنة لأنهم ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ (سورة المائد: 79).

ولذا قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم:-

«من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فقلبه، وذلك أضعف الإيمان»!!

قال أحد التلاميذ وعيناه تبرقان بلألأة الفرح والاطمئنان! حقًا يا عماه!

ليس الصيام من الأمور الشخصية بل يتجاوزها إلى العمومية في مظاهرها كشعيرة وفريضة، ويتعدى الإيذاء بالفطر إلى الآخرين !!

 فلقد تذكرت الآن أن الذي يكشف عن سوء نيته أمام الناس، رغم أنها عورته هو أولًا أنه يجرح بكشفها شعور الآخرين ويتحدى بذلك رب العالمين!!

· قال ولدي:

 أحسب أننا قد ألقينا بحفنة التراب -التي ذرها الأستاذ -في أرضها وتعرضنا لشمس الحقيقة فاستنرنا بهداها، قلت له:

وإلى جلسة قادمة بإذن الله نكمل البيان.

أبو هالة

الرابط المختصر :