العنوان هِمّتنا.. بين تراثنا وواقعنا
الكاتب د. توفيق الواعي
تاريخ النشر السبت 14-أغسطس-2010
مشاهدات 33
نشر في العدد 1915
نشر في الصفحة 47
السبت 14-أغسطس-2010
قديمًا قالوا: من جد وجد، ومن زرع حصد، ومن صبر ظفر، ومن عز بر. وقالوا في مقابل ذلك: الكسول مخذول، والهائم نائم، والفارغ بطال، وصاحب الأماني مفلس.
أمثال وحكم كانت تقر في المخزون الثقافي وتعمل عملها في الرصيد الاجتماعي في الأمة، وكانت تؤتي أكلها في التربية الجيدة في الشعب المسلم، خاصة وأنه عاشها في حياته الروحية ودرب عليها في تاريخه العظيم وفي نهضته المباركة التي قادته إليها عقيدته، وعلمته أن الدنيا تؤخذ غلابًا، وسوق المجد متاعب والحياة صراع، والعلياء تنال بالعزائم.
لا تحسب المجد مــــرًا أنت أكلــــه
لن تبلغ المجـــد حتى تلعق الصيرا
وقيل لأبي مسلم الخرساني: ما لك لا تنام؟ قال: همة عالية، وعزيمة ماضية، ونفس لا تقبل الضيم، وقيل: أجمل السواعد سواعد العمال، وأحسن الرؤوس رؤوس المحلقين، وأهنأ النعاس نعاس المتهجدين، وأطهر الدماء دماء الشهداء.
فكن رجلًا رجـــــــله في الــــــــثرى
وهامـــــــــــــــة همـــــــــــــتة في الثريــــــــــــــــــــــا
وقيمة كل امرئ وما يحسن، والعاطل مصيبة، والفاشل ممقوت، والمخفق ضائع.
وتذكر أن آيات القرآن تطلب من المؤمن الريادة فتقول: سارعوا، وسابقوا، وجاهدوا وصابروا، ورابطوا، تحفيز على كل ما يؤدي إلى الفوز والغلب في هذه الحياة.
قال تعالى: ﴿مَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَنُحۡيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةٗ طَيِّبَةٗۖ وَلَنَجۡزِيَنَّهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ (النحل: 97)، ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ﴾ (النور: ٥٥).
وفي السنة المباركة: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز»، و«نعمتان مغبون فيها كثير من الناس الصحة والفراغ».
وقيل في التراث: ما عال من اقتصد، وما فشل من اجتهد، ومن تفقه في شبابه تعلقت السيادة بأهدابه، والماء الراكد يأسن، والبلبل المحبوس يموت، والليث المقيد يذل، ومن عنده همة متوقدة، ونفس متوثبة، ونشاط موار وصبر دائم في الملمات فهو الفريد، ومن انتصر على نفسه ينتصر على كل شيء، غير نفسك الضعيفة يتغير أمامك كل شيء؛ لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، اختر النجاح دائمًا ولا تختر الرسوب أو الكسل المقيت ومن كانت همته في شهواته وطلب الملذات كثر سقطه، وبان خلله، وظهر عيبه وعواره للجميع.
تحرك فمع الحركة بركة، ومع السعي الفلاح، ومع الجهد الفوز والنجاح، واختلس الفرصة اختلاس الذئب للفريسة، فأمس مات، واليوم في المحاق، وغدًا لم يولد فاغتنم لحظاتك الراهنة واستعد لما هو آت، فإنه فرصة فاستعد لاقتناصها.
والهمم العالية تربى كما تربى الأجساد وتنشأ كما تنشأ الأطفال، ولها مدربون ومربون، ولابد أن تصبر عليها وتتخطى بها العقبات، وصدق القائل:
ومن تكن العليــــــــــاء همة نفسه
فكل الذي يلقاه فيها الحبيب
وقال:
تريدون لقيان المعالي رخيصة
ولابد دون الشهد من إبر النحل
وقال:
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى
فما انقادت الأمال إلا لصابر
إذن لابد من خوض تلك المعارك والانتصار فيها للفرد المؤمن قالﷺ: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز».
وقالﷺ:«الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني».
إذن فنحن نلاحظ أن العلماء والأنبياء والمصلحين يركزون على تربية النفس وتهذيبها ورفعتها حتى تقوى على معوقات الصعود إلى الريادة، ومقاومة الشهوات والنزعات الهابطة، ويستعان على ذلك بالله وبكل ما يؤدي إلى الفلاح والنجاح، وكانﷺ يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال».
وكانﷺ يعلم المؤمنين الاستعداد واغتنام الفرص التي تؤدي إلى الفلاح والنجاح فيقول:«اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك».
وكان ﷺ رائدًا فيما يقول ويفعل، فصبر وجاهد في الله حق جهاده، وتحمل الإيذاء والسب والشتم والطرد من الأوطان، وتحمل الجراح في المعارك وصبر على الجوع، وجاهد أعداء الله من المشركين والمنافقين، وكان رغم ذلك أحسن الناس خلقًا، وأسخاهم يدًا، وألينهم عريكة، وأجلهم إيمانًا، وأنبلهم نفسًا، وأطيبهم عشرة، وأشجعهم قلبًا، وأكبرهم همة، وأمضاهم عزيمة، وأكثرهم تحملًا وصبرًا.
وصدق أصحابه معه في أجل الصبر وأقواه، وجاهدوا معه أحسن الجهاد وأمضاه ووقفوا في سبيل مرضاة ربهم واجتمعت عليهم الدنيا عربها، ثم فرسها ورومها، فما ضعفوا وما استكانوا، ولا غلبت أهواؤهم عقولهم، ولا عجز صبرهم ولا استخفهم الإغراء ولا شغلتهم التوافه، ولا أخافتهم المعارك.
فهذا خالد بن الوليد t و يخوض مائة غزوة، ويقتل يوم«اليرموك»، خمسة آلاف بيده، وتكسر تسعة أسياف في ساعده، حتى قال قولته المشهورة عند موته:«لقد حاربت في مائة معركة، وما في جسدي موضع إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح، وها أنذا أموت على فراشي كما يموت البعير؛فلا نامت أعين الجبناء»، وهذا علي بن أبي طالبt يبارز في«بدر» ويهزم خصمه، ويفتح حصن«خيبر»،ويقتل«مرحبًا» ويذبح «عمرو بن ود»، يوم الخندق».
وتاريخ أصحاب رسول الله ﷺ معروف وهمتهم مسطرة على جبين الزمان ونفوسهم الكبيرة ما زالت تملي على الأمة الدروس والعبر وتنضح فيها العزم والإيمان والريادة.. فهل نأخذ من حكمتهم ونتأسى بريادتهم ونكون خير خلف الأفضل سلف؟ نسأل الله ذلك.. آمين.