العنوان وجهات نظر لا منهج الإسلام .. مناقشة هادئة في الحوار حول عقوبة القصاص
الكاتب المستشار سالم البهنساوي
تاريخ النشر الثلاثاء 24-أكتوبر-1972
مشاهدات 14
نشر في العدد 123
نشر في الصفحة 14
الثلاثاء 24-أكتوبر-1972
حصر المسلمين في الاجتهاد.. وتغير الظروف.. وتعطيل الشريعة الإسلامية قرونًا طويلة.. هذه العوامل مجتمعة لها وزنها وقيمتها في معالجة أي قضية من القضايا الإسلامية.. سواء كانت جديدة.. أو كانت قديمة طرقت حديثًا على ضوء الظروف المعاصرة.
والنقاش الدائر حول «عقوبة القصاص» بين الإخوة عبد الحليم خفاجي وعبد الرحيم عبد الخلاق وسالم البهنساوي ينبغي أن ينظر إليه -ويعالج أيضًا- من خلال هذه الاعتبارات المتفق عليها.
إن طبيعة المجتمع الإسلامي تقوم على «الإيجابيات» في العمل والنشاط والنمو الأخلاقي.. إیجابیات تستمد فعاليتها من الإيمان الصادق بالله.. قبل أن تكون تعبيرًا عن الخوف من الردع القانوني..
وتنشط في عمل الصالحات بدافع الشوق في فعل الخير.. والرغبة في لقاء الله يوم القيامة بوجه أبيض وقلب سليم.. قبل أن تنشط في عمل ذلك کله تحت مؤثرات حزم العقوبة.
إن العقوبات في المجتمع الإسلامي.. هي ضمانات أو ضوابط للسير.. وليست وقودًا لحركته.. ولا تحركًا لخطواته.. هذه واحدة.
والثانية: إن التسرع إلى وصف كلام رجل غير معصوم -وكل المسلمين غير معصوم- بأنه «منهج الإسلام» يفتقر إلى مقادير هائلة من الدقة والصواب والورع.
ذلك أن هذا الوصف يمنح كلام البشر قدسية الإسلام ذاته.. ومن ثم يعتبر نقد كلام الرجال -أیًّا كانوا- نقدًا للإسلام ذاته.. وما يقول بذلك مؤمن يعي دينه.
والحق أن يوصف كلام الذين يحاولون فهم الإسلام بأنه «وجهات نظر».. لا أكثر
وحين ينزل الرأي البشري إلى هذه الدائرة الطبيعية.. فإن فضائل التواضع والإخلاص.. والحرية.. والسماحة... وسِعة الأفق تحكم النقاش العلمي وتنزع به إلى الإدراك الميسور للحقيقة.
و«المجتمع» إذ تفتح صفحاتها في رغبة وغبطة للنقاش الفكري والعلمي.. تود دومًا أن تعلن أنها لن تشترط إلا:
• الالتزام بالموضوعية في الدراسة.
• والالتزام بالأسلوب العف في التعبير.
نشرت جريدة المجتمع الأسبوعية بحثًا عن عقوبة الإعدام للأخ/ عبد الحليم خفاجي في العددين رقم ١١٤، ١١٥ ثم توضيحًا مكملًا للبحث في العدد رقم ١١٦.
وبالعدد رقم ۱۱۹ من ذات الجريدة نشرت ردًا بتوقيع الأخ/ عبد الرحيم عبد الخلاق اتهم فيه صديقه عبد الحليم بأنه:
۱ - «أراد من خلال الفقرات التي نشرها أن يدعم فكرة تعطيل الحدود الإسلامية بصفة عامة، والقصاص بصفة خاصة».
۲ - «يعطى أصحاب هذه الفكرة سندًا ومبررًا تجاه المطالبين بإقامتها».
٣- أعطى فلسفة لأصحاب هذه الفكرة - فكرة تعطيل الحدود الإسلامية ـ إذ وصفها بأنها «حراسة غير منظورة حول المجتمع المسلم فقط».
٤ ـ لا يعلم أن إقامة الحدود فريضة في الإسلام، ولذا وجه له القول «كم كان بودي أن يرجع الأستاذ/ عبد الحليم، قبل أن تبدأ هذه الآراء إلى كتاب الله ليعلم أن إقامة الحدود فريضة من فرائضه».
5 ـ تساوى مع الذين يزعمون عدم فرضية الصلاة والزكاة عليهم، إذ وجه له «فماذا أبقيت یا أستاذ عبد الحليم للذين يدعون بأن الصلاة والزكاة ليست مفروضة عليهم الآن لعدم وجود إمام للمسلمين ينفذ الشريعة بكل حذافيرها» لذلك وأمام هذه المقدمات والمفاهيم التي قطع صاحب الرد بأن أخاه أرادها وأخذ يحشد بعض النصوص والكثير من أقوال الفقهاء وبعض المؤلفين بأن الحدود فريضة لا يحل تعطيلها.
وكنت أود أن تعالج مثل هذه الأمور بمناقشة هادئة يستوضح فيها غاية البحث وهدف الباحث. حيث لا يختلف اثنان ينطقان بشهادة لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله على أن حدود الله فريضة وجزءًا لا يتجزأ من الإيمان.
كما لا يختلف أي قارئ على أن المقالات موضع الطعن لا تستهدف تعطيل الحدود، وليس أدل على ذلك من مضى شهر بكامله دون أن يعقب أحد عليها بكلمة.
تحديد المفاهيم أولًا:
لقد افترض صاحب الرد أن البحث أرید به تعطيل الحدود وإعطاء سند ومبرر للمطالبين بذلك، وهذه كلها مقدمات خاطئة نتجت عن عدم تحديد المفاهيم الصحيحة للألفاظ والعبارات وربطها بالأصول العامة في الكتاب والسنة، ثم نتج أيضًا بسبب الوقوف عند بعض العبارات وجعلها هي المفهوم الوحيد والمقصد الأول من البحث.
ولا يخفى على أحد أن المنهاج الذي لا يعتل ولا يختل والذي لا يضل ولا يزل هو افتراض حسن النية في فقهاء المسلمين وعلمائهم، ومن ثم تؤول الألفاظ والأساليب لمعالجة قضايا المجتمع المعاصر إلى المعنى المتفق مع الأصول العامة في الكتاب والسنة.
في بعض ألفاظ النبي -صلى الله عليه وسلم- تؤول لتتفق مع هذه الأصول مثل حديث «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» حديث «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن».. فهذه وأمثالها لا تنفصل عن الأحاديث الأخرى والآيات الواردة في نفس الموضوع، ومن ثم أولت إلى الكفر المجازي وعدم كمال الإيمان وغير ذلك، ولم يقل بأن المراد بها الكفر المخرج من الملة إلا فئة قليلة انقرضت، وكان لا بد وأن تنقرض.
خمس تحفظات
انطلاقًا من هذه المفاهيم نضع بعض التحفظات على ما ورد بالرد من اتهامات ليكون ذلك سبيلًا إلى وقفة ووقفات لا بد منها، بل لا غنى عنها للنفس اللوامة، وحسبنا أن هذا الرد هو ممارسة عملية للمبدأ الذي بموجبه نشر الأستاذ عبد الرحيم نصائحه.
وأول هذه التحفظات أن إقامة الحدود ليست فرضًا فحسب، بل لا تنفصل عن الإيمان ومن ثم مطالبة الأخ عبد الحليم بقراءة كتاب الله أولًا أمر غريب خصوصًا إذا صدر من صديقه الذي يعلم أن صاحبه يحفظ كتاب الله تعالى وأنه تفرغ -إجباريًّا- لمدة ستة عشر عامًا درس خلالها الكتاب والسنة وكثير من المذاهب والاتجاهات العالمية المعاصرة.
ومن نافلة القول أن أنبه أنني لا أريد من ربط إقامة الحدود بالإيمان أن توزع على المسلمين أثوابًا للكفر والإيمان أو أن أبتدع رأيًا ليس عليـه اجتماع سلفنا الصالح.
ثانيًا: عبارة القصاص حراسة غير منظورة أو حراسة منظورة ليست غاية في ذاتها، فالعبرة بالمسميات، فما دام كلاهما على يقين كامل بحتمية الحدود، ولم ينكر أحدهما ذلك فإن الأوصاف والتصورات لا ينبغي أن تصبح قضايا ومنبعًا للخلافات، ولقد كان أكثر النزاع في الصدر الأول خلافًا لفظيًّا فمن قال من أهل السنة بأن الإيمان قول باللسان لم ينكر استحقاق أصحاب المعاصي العقاب في الآخرة ودخولهم تحت الذم والوعيد، ومن نفى عنهم اسم الإيمان عن الفاسق لم ينكر أنه لم يخلد في النار أبد الآبدين.
ومن هنا بعبارة الحراسة غير المنظورة لا يراد بها وضع فلسفة للجاحدين أو غيره ممن يزعمون عدم صلاحية الإسلام للحكم.
ثالثًا: عبارة الإعدام كلمة غريبة على الحس الإسلامي، قد أفصح صاحبها عن المراد ومن ثم كانت كلمة القصاص هي التعبير الصحيح المنبثق من العقيدة الصحيحة، وكذلك عبارة «لا تقوم هذه العقوبات عمومًا والقصاص بصفة خاصة إلا بعد أن يرتفع عن الناس عذر الجهل والفقر والشرور الخارجية».
هذه العبارة يجب أن تفهم على ضوء ما ورد في جميع جوانب البحث وفي إطار حسن النية، ومن ثم كان يمكن لصاحب الرد أن يؤولها إلى:
أ ـ أن الشريعة ليست مغرمة بقطع اليد أو جلد الأبشار أو قتل الأنفس.
إنما تهدف من الحدود إلى حفظ المجتمع، وصيانة القيم، ومن ثم لا تفصل بين حد الزنا وبين حتمية تطهير المجتمع من كل محركات الشهوة، ولا تفصل بين حد السرقة وبين تحصين المجتمع ضد الفقر والجوع والجهل ولقد كان أول ما یوصي به سیدنا عمر بن الخطاب حكام الأقاليم هو أنهم ما استخلفهم الله على الناس لجلدهم أو قطع أيديهم، إنما لسد جوعهم وتوفير الحرية لهم، ثم يقول فإن فعلنا ذلك أقمنا عليهم حدود الله -تعالى.
ولقد أوقف -رضي الله تعالى عنه- حد السرقة في عام المجاعة، وهو منزه عن الجهالة بفرائض الله وعن أي شبهة أخرى.
ب - أو تؤول العبارة إلى ما أفصح عنه صاحبها في العدد ١١٦ وإليك ما قاله «إن طعننا في المقالين السابقين بعدم أهلية المشرع المحترف في تجريم الأفعال وعلى رأسها ما يحكم فيها بالإعدام، وعدم أهلية القاضي المحترف...
طعننا على هؤلاء مبعثه الغيرة على الشريعة الإسلامية من أن تشوه على أيديهم لبعدهم عن جوهرها وطبيعة بيئتها -لأن ذلك- يولد في النفوس يأسًا من صلاحية الإسلام إن نجحوا في إسباغ صفة الإسلام على تصرفاتهم.
رابعًا: استدلال الأخ عبد الرحيم بأحكام القانون الوضعي للإبقاء على عقوبة القصاص هو استدلال بمعدوم؛ لأن القانون الوضعي هو اعتداء على سلطان الله في الأرض، ولقد علمنا ذلك أحد جنود المسلمين وهو ربعي بن عامر إذ قال لرستم قائد الفرس: «إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد»..
خامسًا: قول الأخ عبد الرحيم بأن الشريعة لا تخفف الجزاء للأعذار في مجال القصاص خاصة ليس صحيحًا على إطلاقه لأنها أعطت ولي الدم الحق في العفو عن القاتل سواء أكان القتل بمبرر وبدون مبرر.
وبعد، فتلك كلمات هادئة أردت بها التذكير وبالله وحده نعتصم ونتأيد.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
مَن لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه... الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان
نشر في العدد 30
21
الثلاثاء 06-أكتوبر-1970