العنوان وسط الحصار الدولي.. نماذج فريدة من الشعب السوداني
الكاتب محمد حسن طنون
تاريخ النشر الثلاثاء 01-يوليو-1997
مشاهدات 18
نشر في العدد 1256
نشر في الصفحة 32
الثلاثاء 01-يوليو-1997
هل تنجح المحادثات مع قرنق.. وهل تدرك أمريكا فشل سياستها مع السودان؟
الحكومة الحالية تتفاوض مع المتمردين من موقف قوة بعد أن استردت ٩٥٪ من أراضي الجنوب
بداية استخراج البترول عامل جديد يحقق ازدهارا اقتصاديا للسودان
رغم الضغوط والحصار الاقتصادي فإنه يثير عجب الزوار للخرطوم أن الحياة تسير سيرًا طبيعيًا، وأنه رغم المناوشات العسكرية على طول خمس جبهات لا يرى الزائر أي نوع من القلق أو الخوف، ورغم ارتفاع سعر صرف الدولار فإن السلع متوفرة، رغم كل هذا تجد الشعب الذي يفترض فيه أن يكون كارهًا لهذه الحكومة التي زادت عليه صنوفًا من المعاناة وأن يكون قليل الاستجابة للنداءات المتكررة للبذل والتضحية بالنفس والمال، ولكن الذي يحدث مرارًا وتكرارًا هو الاستجابة السريعة لتلك النداءات، وهو ما أثار عجب الأجانب - والعرب الذين راهنوا - حسب ما قدر لهم صادق المهدي - على هبة جماهيرية عارمة تطيح بهذا الوضع متزامنة مع دخول الأحباش مدينة الكرمك وقوات أسياس أفورقي عن طريق شرق البلاد.التضحيات في سودان اليوم لم تقتصر على الرجال، بل تعدتها إلى النساء، حيث قامت النساء في جميع أرجاء السودان بالمشاركة في الانخراط في صفوف الجيش الشعبي، وفي تحضير «زاد المجاهد» وبإرسال فلذات أكبادهن إلى جبهات القتال. وهذه النقطة الأخيرة جديرة بوقفة قصيرة للتأمل... عندما كنا نزور بيوت العزاء، أو كما تسمى الآن «عرس الشهيد» لتقديم العزاء لأهالي الشهداء، تقابلك النساء ليس بالعويل ولطم الخدود، بل بالتهليل والتكبير وإطلاق الرصاص.
ولا أنسى أم أحد الشهداء وهي تنصح مثيلاتها من أمهات الشهداء أن يداومن على قراءة ودراسة سورتي التوبة والأنفال. عندما ترى هذه الصور... الاجتماعية وصفوف النساء وهن يحملن الكلاشنكوف... تعرف عندها مدى التحول الهائل في المجتمع السوداني....
الضغوط الاقتصادية بدأت بعد حرب الخليج متحججة بما أسموه موقف الحكومة السودانية ضد الكويت، وهي أبعد ما تكون عن ذلك... ولكن السبب الحقيقي هو تبني الحكومة السودانية شعار «من لا يملك قوته لا يملك قراره»، ومن هنا تجسد قرارٍ: «نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع» طبعا لم يُقدر الناس أن هناك ثمنًا يجب أن يدفع خصوصًا في زمان النظام العالمي الجديد، فالدول التي ارتضت أن تعيش على فتات الدول الكبرى دفعت الثمن ذلا وخنوعًا وخضوعًا للدول مانحة القمح !! أما السودان فهو يقع تحت طائلة الشحٍ في النقد الأجنبي، وكان من نتيجة ذلك أن وسع السودان المساحات المزروعة قمحا وأرزًا وهو في طريقه للاكتفاء الذاتي، بله التصدير. في الماضي كان السودان يحصل على حوالي ۸۰۰ مليون دولار في شكل معونات وقروض أجنبية الآن تقلص هذا المبلغ إلى ۲۰ مليونًا فقط..... وبذلك ارتفع سعر الدولار إلى آفاق خرافية. حسب النظريات الاقتصادية ينبغي أن لا يكون هناك سودان، ولكن... التنمية تسير بخطى بطيئة، ولكنها متواصلة…
- الطرق التي ستربط أنحاء السودان وفي كل الأجواء تبنى.
- مساحات كبيرة تستصلح للزراعة.
-الجامعات تفتح في كل الولايات.
-الولايات الجنوبية ... تشهد عودة أفواج كبيرة من العائدين، حيث يوفر لهم السكن والعيش والتعليم والصحة ....
-يحدث هذا كله في الوقت الذي تدور فيه معارك استنزاف على خمسة محاور:
- غرب الاستوائية
- شرق الاستوائية
-جنوب شرق السودان (الكرمك)
- شرق السودان مع إريتريا
-جبل النوبة
الدعم الأمريكي المعترف به... الغرض منه الاستنزاف... وشغل السودان بمعارك يعرفون أنها لا تسقط هذه الحكومة .... العامل الجديد في المجال الإقتصادي هو بداية استخراج البترول على مدى اقتصادي وتجاري ضخم.
فقد وقعت الصين وماليزيا وقطر وشركات كندية اتفاقيات مع حكومة السودان لاستغلال المخزون الضخم وطالبت الصين بزيادة كبيرة في حجم الأنبوب الذي سينقل الخام من حقول البترول في غرب وجنوب السودان... مما يدل على الجدية في هذا الأمر، وسيكون العام القادم والذي يليه أعوام الاكتفاء الذاتي من
البترول.
جبهات القتال
بالنسبة لجبهات القتال، فقد بدأ الغدر والخيانة بهجوم على السكان الآمنين بمدينة الكرمك ... هجوم مدفعي ثقيل ليس للمتمردين إمكانات القيام به، وكان قد سبقه تحركات إثيوبية كبيرة ونقل للعتاد والجنودكشفت عنه الأجهزة الأمنية. أدى ذلك الهجوم لتدمير البيوت والمنشآت من مدارس ودور للحكومة ومساجد، تبع ذلك دخول إثيوبي كثيف في معيته شرذمة في فلول المتمردين السودانيين الذين أعملوا أسلحتهم قتلًا في النساء والأطفال ورموز الإدارة من الإسلاميين وغيرهم..... أعقب ذلك هروب كثير من النساء والأطفال إلى الجبال المحيطة بالمدينة ... وموت بعضهم عطشًا. ولكن الجيش وقوات الدفاع الشعبي هبوا لنجدة الحامية الصغيرة بالبلدة وأوقفوا الهجوم الإثيوبي ومن وقتها ظلت هذه الجبهة هادئة .كذلك اندحر الهجوم في جبهة شرق الاستوائية حيث كان الجيش الأوغندي هو الغطاء لشراذم المتمردين السودانيين، وحيث أسرت أعداد من الجنود الأوغنديين وعرضوا على التلفزيون السوداني... وقد تصدت القوات السودانية وقوات الجيش الشعبي ولقنت القوات الأوغندية هزيمة نكراء، مما حدا بالرئيس الأوغندي موسيفيني طلب لقاء عاجل مع الرئيس البشير بوساطة الرئيس الكيني وهو ما حدث بالفعل وكان من نتيجته تعهد موسيفني بوقف تقديم مساعدات للمتمردين السودانيين وإقناع قرنق بالحضور المائدة المفاوضات... ولكن الجانب السوداني لا يعلق كثيرًا على كلمة موسيفيني فقد نقض اتفاقات كثيرة قبل ذلك إثر وساطات قامت بها ليبيا ثم إيران.
بالنسبة للجبهة الشرقية حيث تركز إسرائيل وأمريكا جهودهما الواضحة، فقد تقدمت القوات الإريترية المدعومة بالمروحيات والدبابات الثقيلة مما لا قبل لدولة إريتريا بها واستولت على نقاط حدودية صغيرة وأعملت فيها هدمًا وتقتيلًا واغتيالًا ... ولكن القوات المسلحة مدعومة بسلاح الطيران وقوات الدفاع الشعبي... كبدتهم مئات القتلى وغنمت بعض الدبابات والآليات... والجدير بالذكر أن هذه المعارك بالذات اشتركت فيها وحدات من فرسان الأنصار من أهل غرب السودان وهم معقل الأنصار أتباع المهدي!!
بقي أن نشير إلى أن أمريكا وإريتريا وأوغندا أعلنوا على الملأ اشتراكهم في تلك المعارك، مما كفي حكومة السودان الرد على القائلين بأن ما يجري في السودان «هو شأن داخلي»!!.
رغم تورط أمريكا في هذا الموضوع، فقد أعلن عدم طاقم سفارتها بالخرطوم في جلسات خاصة عدم رضاهم عن سياسة حكومتهم وموقفها الخاطئ من نظام راس وثابت، ويستطيع أن يوفي بالتزاماته - كما قال بعض الدبلوماسيين الأمريكان - أكثر من أي حكومة مضت بما في ذلك حكومات الصادق المهدي المتعددة.
نأتي لأكبر حدث في تاريخ السودان، بل في تاريخ كثير من دول العالم الثالث التي تعاني من الحروب الداخلية الانفصالية .... الحرب التي دارت في الجنوب منذ الاستقلال ليس لها صلة بالحكومة الحالية، وليس لها صلة بالدين والشريعة فقد بدأت منذ الاستقلال بعد أن بذرت بريطانيا بذورها قبل ذلك بجعل الجنوب منطقة مقفولة للسودانيين الشماليين، إلا بإذن خاص، ثم أطلقت أيدي الإرساليات والمنصرين، ونتج عن هذه السياسة شیئان: تعمق في سيكولوجية الإخوة الجنوبيين شعور بالتفرقة والظلم تجاه الشماليين، وثانياً: نشأ جيل كامل يلبس ملابس الغربيين ويتكلم لغتهم ويدين بدينهم ويحتل الوظائف العليا، يمثل هؤلاء جون قرنق وآخرون، هذه الشريحة من سكان الجنوب رغم أنها تمثل الأقلية القليلة من مجموع سكان المديريات الجنوبية وتكاد تتساوى عدديًا مع الجنوبيين المسلمين، إلا أنها أقلية فاعلة متمكنة وإلى حد كبير محركة من الخارج إلا من رحم ربك.
«من رحم ربك» يمثلها المجموعة التي أبرمت الاتفاقية الأخيرة مع الحكومة تضم أكبر ثلاث فصائل عسكرية للمتمرد قرنق، وهي ضربة قاسية لمخططاته والذين يسندونه من الخارج، وقد حاول هؤلاء الأخيرون عرقلة التوقيع في آخر لحظة، وقد زاد العب العسكري على قوات قرنق التي تلقت ضربات موجعة من القوات التي كانت تحت قيادة هؤلاء الموقعين على الاتفاقية.
هناك من يدعي أن الاتفاقية أعطت الجنوبيين كثيرًا بدون ضمانات، والذين يروجون لهذه الادعاءات- صادق المهدي وأعوانه في الخارج - لم يجلسوا حتى ولا على مائدة المفاوضات مع المتمردين بدءًا من نميري نهاية بصادق المهدي الذي حكم السودان ثلاث مرات! فهم كلهم لم يدخلوا في نقاش جاد مع أي من فصائل الجنوبيين، حتى اتفاقية أسمرا التي وقعت مع نميري لم تتناول أمورًا جادة، أما صادق المهدي فقد تدهورت الأمور في عهوده حتى كان دائمًا في موقف ضعيف لا يستطيع أن يملي أي شيء على الطرف الآخر، فعندما سافر لأديس أبابا ليقابل قرنق جعله الأخير ينتظر ساعات قبل أن يتفضل عليه بالمقابلة، وعندما قابله قال له بالحرف الواحد: أنا أتكلم معك بصفتك رئيس «حزب الأمة» - حزب الأنصار - وليس بصفتك رئيس وزراء حكومة السودان، وطبعا لم يحصل صادق المهدي علىشيء غير الإزدراء والتحقير.
أما هذه الحكومة فهي تتفاوض من موقف قوة بعد أن استردت ٩٥٪ من أراضي الجنوب من براثن المتمردين.
الحقيقة هي أن الفصائل التي وقعت هذه الإتفاقية اقتنعت بعدم جدوى الاحتراب لأنه لن يوصلها إلى نتيجة لأن الحكومة ومن ورائها الشعب الذي قدم شهداءه لن يفرطوا في أي شبر من الأرض، وأن مزيدًا من القتال يعني مزيدًا من المعاناة والتشرد لأبناء الجنوب والنقص في الأنفس والثمرات، وقد عزز هذا الشعور حضور نائب رئيس الجمهورية بنفسه لمقار قياداتهم في أحراش الغابات، وهو أمر له مدلوله من حيث جدية الحكومة، ومن حيث فاعلية الرجال الذين يقودونها.
لقد آن الوقت للدماء السودانية أن تحقن، وآن الوقت للاستقرار والتنمية، هذا ما اقتنع به قادة الفصائل المنحازة للسلام، بقي قرنق ومجموعته.... تجرى الآن محادثات معه شخصيًا - تساندها الولايات المتحدة التي بدأت تثوب إلى رشدها
شيئًا فشيئًا - نرجو لها التوفيق.
هل هناك ضمانات لاستمرار هؤلاء الموقعين على الاتفاقية في الالتزام ببنودها؟ العلم عند الله ولكن كل المؤشرات وتصرفات الموقعين على أنهم ملتزمون.
الحكومة أيضاً تجري اتصالات دائمة ليس مع أبناء الجنوب، بل كل رموز ما يسمى بالمعارضة في الخارج بما فيهم الرئيس نميري والذي أسقطت عنه كل القضايا بالاتهامات التي وجهت إليه ودعي للعودة للوطن معززًا مكرمًا كأي مواطن آخر، ولكن الأمر متروك له ولظروفه أولاً وأخيراً، وفي الأسبوع الماضي عاد إلى أرض الوطن بعد طول غياب الشريف زين العابدين الهندي من كبار أقطاب المعارضة واستقبل استقبالًا شعبيًا كبيرًا حتى بكى تأثرًا، وقد قابل أتباعه ومريديه بحرية تامة وزار الجبهة الشرقية حيث كثير من الأتباع لتفقد الجبهة وقابل قادة القوات المسلحة والدفاع الشعبي.
وتتردد أنباء محزنة عن ضلوع بعض الأطراف العربية في مؤازرة المتمردين في الجنوب والشرق ضد أمن ووحدة السودان، ولعل الأمر الوحيد الذي آثار هذا التساؤل والأسى هو ما غنمته السودان وقوات الدفاع الشعبي من عتاد عربي مستعمل!! كيف وصل للمتمردين؟ ومن أين؟ الله وحده يعلم
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكليا شيخ فولبرايت.. من شَوَّه سمعة بلادك؟ - نحن واقع «دائم».. فهل تتعاملون مع «الحقائق»؟
نشر في العدد 128
19
الثلاثاء 05-ديسمبر-1972