; «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل» | مجلة المجتمع

العنوان «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل»

الكاتب د. سالم نجم

تاريخ النشر الثلاثاء 30-ديسمبر-1997

مشاهدات 15

نشر في العدد 1282

نشر في الصفحة 49

الثلاثاء 30-ديسمبر-1997

في مصلى مجمع عيادات الدكتور عبد العزيز كردي- رحمه الله- بمكة المكرمة أقيم لصلاة المغرب، وحينما تقدمت لإمامة المصلين رأيت بالقرب من باب المصلى شيخًا ضريرًا يعمل أستاذًا للتفسير في جامعة الأزهر وأم القرى، ويقود الشيخ ويسنده أحد العاملين بالمجمع الطبي والشيخ من مرضاي ويشكو من أمراض متعددة «البول السكري، والكبد والمعدة والتهاب المفاصل، والأطراف العصبية في القدمين» كما أني أعرفه عالمًا وراعيًا وداعية موهوبًا، ومنذ حوالي عام وفي المصلى نفسه أمنا لصلاة الظهر ثم اتجفنا بحديث قصير فسر الآية الكريمة: ﴿مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ (فاطر: ٢) لقد كان لحديثه أثرًا إيجابيًا عميقًا فتح به قلوبنا على المعنى العظيم الذي تشير إليه الآية من أن العطاء والمنع بيد الله تعالى المنعم الوهاب ذي الجلال والإكرام، وحينما يقدر الله الخير للإنسان لا يمكن لبشر أن يحبسه أو يمنعه كما لا يستطيع إنسان كائنًا من كان أن يمنح غيره خيرًا لم يقدره الله له، وعلى المؤمن أن تكون هذه القضية مؤكدة في نفسه وأن يكون إيمانه بالقضاء والقدر لا حدود له، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.. مرت هذه الخواطر سريعة في ذهني قبل أن أدعو الشيخ ليؤمنا لصلاة المغرب.

 عقب الصلاة واجه الشيخ المصلين وتحدث إليهم مخاطبًا الشباب بشطر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «خذ من شبابك لهرمك»، وذكرنا بمنزلة الشاب الطائع عند الله وأنه من السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله حين تقترب الشمس من الرؤوس بمسافة دون الميل كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلوم الفلك تنبؤنا بأن الشمس تبعد عن الأرض بملايين الأميال، وكلنا يشعر بلهيب الشمس وحرارتها في أيام الصيف رغم هذا البعد الشاسع الذي يفصلنا عنها، فكيف يكون الحال حينما تقترب الشمس من رؤوس الأشهاد يوم الحشر؟ وكيف تكون حرارتها على الأبدان والناس حفاة عراة؟ وليس لنا من حماية إلا أن نكون في ظل الله سبحانه الذي وعد به عباده السبعة الذين جاء ذكرهم في الحديث الشريف ومنهم شاب نشأ في طاعة الله.

 والشباب لم يستوعب حقيقتين أشار إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعاذ منهما في دعائه حين قال: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل» ومعنى العجز هو عدم القيام بعمل الصالحات مع القدرة عليه، أما الكسل فهو التسويف وتأجيل ما يجب عمله إلى وقت لاحق فهو يؤجل فعل الخيرات إلى أجل ربما لن يأتي أبدًا، وفي كلا الحالتين لا يدري الشاب متى يفاجئه الموت ومتى يحين انتهاء الأجل، فهذا من علم الله وحده ولا يعلمه بشر أو يستطيع أن يتنبأ به. إن الانزلاق إلى مواطن الشبهات قد يوقع المرء في الرذيلة، ومن حام حول الحمى أوشك أن يرتع فيه وإن ارتكاب المعصية في أول مرة في حياة الشاب قد يدفعه إلى ارتكابها مرات تالية ثم يعتاد عليها وحينئذ يصعب عليه الخلاص منها. والأجدر بالشاب ألّا يحوم حول مواطن الريبة وأن يبتعد عنها كإجراء وقائي يحميه من الانحراف ومقارفة المعاصي.

 ولقد نبهنا الله تعالى إلى هذا المعنى فيقول سبحانه: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (الإسراء: ٣٢) ويحض القرآن الكريم في آية أخرى على اجتناب الخمر فيقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (المائدة:٩٠).

 أمر آخر ألا وهو مصاحبة الأشرار والعصاة، فلقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح «إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة».

 حينما انتهى الشيخ من حديثه تفرق المصلون وبقيت أنا وعامل النظافة في المصلى. أخذت بيد الشيخ إلى الخارج وأوقفته أمام نعليه وانتظرت أن يتقدم العامل بمساعدة الشيخ ليلبسهما ولكنه لم يفعل فانحنيت وألبست الشيخ أحد نعليه وحينئذ قام العامل بإلباسه النعل الآخر ثم اصطحبت الشيخ إلى غرفة الكشف الطبي وقمت بفحصه على الأريكة وبعد الانتهاء من الكشف أنزلته وحاول أن يتحسس نعليه فلم يستطع نظرًا لعاهته وفقدان الحساسية من قدميه وتوقعت أن تقوم الممرضة بمساعدة الشيخ ولكنها لم تفعل ربما لم تتعلم كيف تحسن التصرف في مثل هذه الظروف فقمت بنفسي بذلك رغم تأبي الشيخ وتمنعه.

القدوة من أستاذ بريطاني:

لقد تصرفت بشكل عفوي مع الشيخ مقتديًا بأستاذ بريطاني كنت أتعلم الطب على يديه في أوائل الستينيات، فقد كان يقوم بنفسه بإلباس المرضى أحذيتهم أمام الطلاب والأطباء وهيئة التمريض ثم يصافحهم ويودعهم بابتسامة صادقة وكلمات تشجيع رقيقة.

 هذا الموقف لم يغب عن ذاكرتي طيلة السنين الماضية وتعلمت من أستاذي أن هذا السلوك الإنساني والحضاري للطبيب يجب ألا ينفصل عن عمله وخبرته وآداب المهنة التي يحترمها.

 إن الممارسة العملية للأطباء مع المرضى في مثل هذه المواقف تترك انطباعًا لا ينسى لدى المرضى وذويهم، وهذه المهنة جديرة بأن تكون رسالة إنسانية، إن لكل مريض علتين علة في الجسد وعلة في النفس، وعلى الطبيب المؤمن الحاذق أن يرعى الله في هاتين العلتين ويعطي لكل منهما القدر الكافي من اهتمامه طبقًا لحاجة المريض إليه.

 ولنا في رسوله الله صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة في طلاقة الوجه وحسن الخلق والتواضع واحترام مشاعر الآخرين والبذل والعطاء، مما يقصر الوصف عن الإحاطة به، والسنة المطهرة تفيض بهذه المواقف الكريمة للرسول وصحبه الطيبين. 

قصدت بهذه الرسالة أن أذكر نفسي والأجيال الشابة من أبناء المسلمين وبناتهم بالحقائق التالية: 

1 - أن العاهات البدنية والأمراض لا تمنع المؤمن من الوصول إلى أعلى الدرجات العلمية وأن يكون نافعًا لأمته. 

٢ - الأرزاق «مال وصحة وعلم وجاه ومركز ... إلخ» بيد الله سبحانه.

لا يعطيها ولا يحبسها إلا هو فاطلبوا الحاجات بعزة أنفس فإن الأمور تجري بمقادير إذ لا ينفع النفاق ولا المداهنة أو المداراة أو الخيانة والكذب وغير ذلك من الأخلاق المستهجنة في الحصول على الرزق حيث إن كافة الأرزاق من عند الله.

٣- الشباب عدة الأمة وعمودها الفقري ونحن في هذا العصر نواجه ألوانًا خبيثة من المؤامرات تحاك من أعداء الإسلام لإفساد الشباب المسلم بهدف إحكام السيطرة على الأمة الإسلامية وإذلالها وأن السبيل الأوحد لإحباط هذه المؤامرات في الرجوع إلى الله تعالى والتمسك بالأخلاق القرآنية والسنة المطهرة.

٤- ضرورة الاهتمام بتطبيق منهج التربية الإسلامية دراسة وروحًا لكي تنشأ عليها الأجيال ولتشكل الأساس المتين للحياة التطبيقية بكافة أنواعها- مهنية- حرفية- اقتصادية- سياسية- عسكرية... إلخ.

٥- الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى الناس بها وعلى الأمة الإسلامية أن تقتبس ما يفيدها من الحضارات الأخرى وأن ترفض كل ما يخالف الشريعة الإسلامية والمروءة البشرية التي فطر الله الناس عليها. 

[*] الأستاذ بكلية الطب جامعة الأزهر. 

الرابط المختصر :