العنوان «النسيء» والحاجة إلى ضبط التاريخ.
الكاتب د. محمد أحمد عزب
تاريخ النشر الجمعة 01-سبتمبر-2017
مشاهدات 12
نشر في العدد 2111
نشر في الصفحة 24
الجمعة 01-سبتمبر-2017
قد تسقط قضايا برمتها تتعلق بمصائر أمم حين يكون تزوير التاريخ سبيلاً للادعاء
«النسيء» ضربان أحدهما تأخير شهر المحرم لشن الغارات والحروب والآخر تأخير الحج تحرياً للسنة الشمسية
من أسباب تبديل العرب للتقويم تثبيت الحج في فصل واحد ليتمكنوا من التجارة وقت اعتدال الحرارة
التاريخ إحدى الأدوات التي تكشف الزيف وتزيله وتجعله هباءً منثوراً
للتاريخ وتدوين الحوادث أهمية كبرى في حياة الأفراد والأمم قاطبة، وتشير آيات القرآن إلى أهمية التاريخ وضرورته في حياة الأمم قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) (يونس: 5)، وتستلهم الأمم والمجتمعات المثل العليا والتجارب الناجحة أحياناً من خلال التاريخ.
للتاريخ والتأريخ دور مهم في عملية الإثبات والنفي، وتحديد الوقت وصحته أحد أركان الضبط، فقد تسقط قضايا برمتها تتعلق بمصائر أمم حين يكون تزوير التاريخ سبيلاً للادعاء.
العرب والكبس في التاريخ:
عرف العرب قديماً التاريخ، وكانت الشهور القمرية هي أساس الضبط عندهم، كانت حاجتهم للضبط تنبع من توارثهم شعائر يعظمونها لها مواقيت محددة؛ كالحج، والأشهر الحرم، إلا أن العرب قد استولت عليهم الأهواء وسقطوا في هوة تبديل التاريخ ونقله عن وضعه لهوى داخل نفوسهم.
حين فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة في العام الثامن، لم يذهب ليحجّ في العام التالي، بل حج في العام العاشر للهجرة، وفي خطبته بمنى قال: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ»(1)، إذاً وقع حجُّ العام التاسع في غير موضعه من الزمن، فلم يصادف وضع الزمن في دورتي القمر والشمس معاً؛ نظراً لما أحدثه العرب في عملية التأريخ من النسيء الذي ذمه الله تعالى، وهذا النسيء بينه السهيلي (581هـ) بقوله: النسيء على ضربين؛ ما ذكره ابن إسحاق من تأخير شهر المحرم إلى صفر، لحاجتهم إلى شن الغارات وطلب الثارات.
والثاني: تأخيرهم الحج عن وقته تحرياً منهم للسنة الشمسية، فكانوا يؤخرونه في كل عام أحد عشر يوماً، أو أكثر قليلاً، حتى يدور الدور إلى ثلاث وثلاثين سنة، فيعود إلى وقته، ولذلك قال عليه السلام في حجة الوداع: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض»، وكانت حجة الوداع في السنة التي عاد فيها الحج إلى وقته ولم يحج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة غير تلك الحجة؛ وذلك لإخراج الكفار الحج عن وقته، ولطوافهم بالبيت عراة (2).
تثبيت الشهور القمرية عند العرب وغرضه:
يتعرض البيروني (440هـ) لأحد أسباب تبديل العرب للتقويم، ومحاولتهم جعل القمري موافقاً للشمسي، فجمعوا إلى النسيء مذمة أخرى وهو الكبس، يقول: «كان يدور حجُّهم في الأزمنة الأربعة، ثم أرادوا أن يحجوا في وقت إدراك سلعهم من الأدم والجلود والثمار وغير ذلك، وأن يثبت ذلك على حالة واحدة، وفي أطيب الأزمنة وأخصبها، فتعلموا الكبس من اليهود المجاورين لهم»(3).
فإذا علمنا أن حجة الوداع قد صادفت أوائل فصل الربيع من السنة الشمسية في أوائل مارس، علمنا أن العرب قصدوا بالكبس زمناً معيناً للحج، أرادوا به أن يثبت الحج في فصل واحد من فصول السنة الشمسية يصادف نضجاً في الثمار ليتمكنوا من التجارة والربح، والذهاب والإياب في اعتدال الحرارة، وقد ذمهم الله على تبديلهم ذاك وعابه عليهم.
ابتداء التأريخ في الدولة العمرية:
حين دعت الحاجة المسلمين إلى وضع نظام ضابط للتاريخ، وكان هذا في زمن الفاروق عمر رضي الله عنه، لم ينفرد عمر بالقرار ليضع المسلمين على طول الدهر أسرى لقرار يأخذه بنفسه دون استشارة، يقول العيني (855هـ): «قال ابن عباس: لما عزم عمر على التاريخ جمع الصحابة فاستشارهم، فقال سعد بن أبي وقاص: أرّخ لوفاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال طلحة: أرّخ لمبعثه، وقال علي بن أبي طالب: أرّخ لهجرته فإنها فرقت بين الحق والباطل، وقال آخرون: لمولده، وقال قوم: لنبوته.. واتفقوا على قول علي، رضي الله تعالى عنه»(4).
إذاً اتفق الصحابة على مناسبة لها تعلق بالدعوة لا بشخص القائم بها صلى الله عليه وسلم، فلا وافقوا على التأريخ بمولده ولا بوفاته ولا ببعثته صلى الله عليه وسلم، بل بما صار فيه للدعوة فرقاناً بينها وبين الرافضين لها، وبما صار لصاحبها صلى الله عليه وسلم وأصحابه حرية العبادة والتنقل وإقامة الشعائر بلا خوف في الزمان والمكان معاً، وهو الملحوظ في قول علي رضي الله عنه: «فإنها فرقت بين الحق والباطل» هذا هو المعيار.
التأريخ يكشف زيف اليهود وغيرهم:
إن التاريخ إحدى الأدوات التي تكشف الزيف وتزيله، وتجعله هباء منثوراً، ومن أقوال العلماء: «لم يستعن على الكذابين بمثل التاريخ» (5)، فحين يكذب اليهود والنصارى ويسوقون دعوى باطلة ردها الله عليهم بما لا مناص منه ولا مجادلة فيه، فحين ينسب اليهود إبراهيم الخليل لليهودية، وينسبه النصارى للنصرانية؛ تتدخل قضية التاريخ للفصل والإفحام، فيقول الله تعالى مخاطباً لهم: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ {65}) (آل عمران).
في التاريخ الإسلامي محاولات حاول أصحابها ادعاء دعاوى باطلة بعهود مزورة كشفها التاريخ، يذكر ابن الجوزي (597هـ) أنه «قد أظهر بعض اليهود كتاباً، وادعى أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وفيه شهادات الصحابة، وأن خط علي بن أبي طالب فيه، فعرضه رئيس الرؤساء ابن مسلمة على أبي بكر الخطيب، فقال: هذا مزوّر، قيل: من أين لك؟! قال: في الكتاب شهادة معاوية بن أبي سفيان، ومعاوية أسلم يوم الفتح، وخيبر كانت في سنة سبع، وفيه شهادة سعد بن معاذ، وكان قد مات يوم الخندق»(6)، كأنه قال: كيف يشهد سعد بن معاذ على أمر حدث بعد وفاته بثلاث سنوات؟! وكيف يشهد معاوية على أمر وقع قبل إسلامه بسنة؟!
ومن طرائف كشف الزيف بالتاريخ ما في الصحيح أن عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي قال: سمعت أبا نعيم، وذكر المعلى بن عرفان فقال: قال: حدثنا أبو وائل، قال: خرج علينا ابن مسعود بصفين، فقال أبو نعيم: «أتراه بعث بعد الموت؟»(7)، قال النووي (675هـ): «معنى هذا الكلام أن المعلى بن عرفان كذب على أبي وائل في قوله: «خرج علينا ابن مسعود»؛ لأن ابن مسعود رضي الله عنه توفي في خلافة عثمان رضي الله عنه، و»صفين» كانت في خلافة علي رضى الله عنه، فلا يكون ابن مسعود رضي الله عنه خرج عليهم بـ»صفين» إلا أن يكون بعث بعد الموت (8).
وبهذا كان الضبط في نقل الكلام والحوادث أحد وجوه صوابية صحة التاريخ.
الهوامش
(1) متفق عليه، البخاري (برقم 5230)، ومسلم (برقم 1679)
(2) الروض الأنف: 1/ 114.
(3) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (16/ 124).
(4) عمدة القاري، للعيني (17/ 66).
(5) تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي (7/ 357).
(6) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، لابن الجوزي (8/ 266).
(7) مقدمة صحيح مسلم، طبعة دار الجيل (1/ 20).
(8) شرح النووي على مسلم (1/ 118).
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
اللواء صـلاح شــادي: ضباط ثورة 23 يوليو بايعوا الإمام البنا على إقامة شرع الله.. حين قال عبد الناصر: أنا تركت لكم الصلاة.
نشر في العدد 454
20
الثلاثاء 14-أغسطس-1979