العنوان إشارات.. فلسطين بين العربي المعاصر والمسلم الآتي
الكاتب مجلة المجتمع
تاريخ النشر الثلاثاء 20-أبريل-1976
مشاهدات 12
نشر في العدد 296
نشر في الصفحة 16
الثلاثاء 20-أبريل-1976
«1» فلسطين بين العربي المعاصر والمسلم الآتي
إن المصير المحزن الذي آلت إليه قضية فلسطين والطريق المسدود الذي انتهت إليه كل المحاولات الرامية لاستعادة حقنا السليب إنما يعود إلى غياب (الإنسان المسلم) و(القيادة المسلمة) في شتى أبعادها ومساحاتها (ما عدا بطبيعة الحال بعض مساحات من منظمة فتح الفدائية قيادة وقواعد)، حيث وجد بدلًا منه (العربي المعاصر).
والفرق الكبير الشاسع بين الاثنين هو الفرق بين الهزيمة والانتصار، وبين التمزق والوحدة، وبين التراجع والصمود.. إن الإنسان المسلم، حفيد ابن الخطاب والناصر صلاح الدين، ليملك من الإيمان والشجاعة والثقة واليقين والفطنة والتفاني.. ما لا يطمح العربي المعاصر للحصول على عشر معشاره.. هذا العربي الذي يعاني خواء روحيًا محزنًا، وفراغًا عقائديًا مخيفًا، وإحساسًا عميقًا بالنقص والضآلة.. الأمر الذي يدفعه دفعًا إلى الارتماء في أحضان الدعوات الوافدة كي لا يقال عنه إنه غير عقائدي، رغم أن هذه الدعوات هي التي أسهمت في صنع الكيان الصهيوني وأرضعت الصهيونية لبن الحقد والكراهية.
إن الهزيمة النفسية المريرة التي يعانيها العربي المعاصر قادته إلى انتماءات سياسية وعقائدية ما كان بإمكانها يومًا -ولن يكون- أن تسهم في حل طرف من أطراف القضية الصعبة المعقدة، لأنها تنبثق من قاعدة أن لليهود كأمة الحق المطلق في التعايش السلمي مع العرب، وأن الكفاح يجب أن ينصب على ممثلي الإمبريالية في إسرائيل لا على اليهود أنفسهم.. إلا أن العربي المعاصر ينسى هذا التناقض الحاد، وتدفعه هزيمته وخواؤه إلى البحث عن امتلاء شكلي، خارجي، فيتعبد أسماء البطولات المستوردة، ويعتمدها في تشكيلاته وتنظيماته وعطاءاته الفنية وحواره اليومي ومن ثم يبدو أن جيفارا ما دام هو رمز البطولة والفداء لدى العربي المعاصر وليس (خالدًا) أو (صلاح الدين)، فإن قضية فلسطين ستزداد تعقيدًا وتأزما إلى أن يجيء يوم يعرف فيه هذا العربي أن (جيفارا) نفسه هو السكين التي ستقطع كل رأس يطمح إلى قتل يهودي واحد، وكل خيال يحلم بزوال دولة إسرائيل..
ولنستمع إلى صوت واحد من متعبدي (جيفارا) وهم ألوف.. يرد فيه أسد محمد قاسم بحماس (عقائدي) على القائلين (بالرجوع) إلى فلسطين على حساب (الشعب الآخر):
قل للمبشر بالرجوع خسست من متآمر
أولم تلغ يا ذئب في دمنا المراق الطاهر
أرجعت تنفث من سمومك كالخليع العاهر
سأعود إني قد وثقت برغم كل مكابر
سأعود لكن لا على أشلاء شعب آخر.
يا باعث الموت الكريه بدرب أبناء الحياة
يا ناعقًا كالبوم بالشؤم المدمر للحياة
لا لن نعود لجولة أخرى وأعداء الحياة
في كل قطر يشربون دماء أبناء الحياة
فنثيرها حربا على شعب له حق الحياة
شعب له حق الحياة كما لنا حق الحياة
يا كلب الاستعمار اخرج أنت إبليس الحياة
سنعود والشعبان متفقان في حب الحياة
ونسير صفًا واحدًا يجتث أدران الحياة
والعربي المعاصر الذي لم تتناوشه مبادئ وتيارات وافدة كهذه.. سيكون عرضة للتحلل الأخلاقي والتفسخ الروحي والتعامل المجاني مع كل القيم والمعتقدات التي يمكن أن تلعب دورها في ميدان صراعه وكفاحه.. وهذا التحلل والتفسخ والمجانية التي يقود إليها اللا انتماء، لا يمكن أن يوقفه حمل بندقية أو رشاش في ساعات الهجوم، على معاقل الأعداء.. لأن ساعات البطولة هذه ستنفصل بجزء من شخصية العربي وتكتفي بها وندع الأجزاء الأخرى نهبًا لعوامل الدمار الخلقي والذاتي.. وسيجيئ يوم يشعر فيه العربي المعاصر هذا ألا قدرة له على القتال والمقاومة، وأن البندقية والرشاش تعوقانه عن إشباع نهم لا يعرف ارتواء، فيتخلى عن القضية ويخدع رفاقه بانتماءات ظاهرية لا رصيد لها في سوق القتال.
إن جريمة غياب الإنسان المسلم المتوحد الذكي، المتفاني، تقع على عاتق كل الحكام والطواغيت الذين راحوا، منذ مطلع هذا القرن، وحتى هذه اللحظات، يعملون قتلًا واضطهادًا للمسلمين، ويضعون في دروب حركاتهم الموانع والسدود، وينفذون من حيث شعروا أم لم يشعروا مخططات استعمارية صهيونية مسبقة كانت تعرف منذ البدء معرفة اليقين أن الكيان الصهيوني لا يمكن أن يقوم والإنسان المسلم يعمل وحده، بنقاء، على أرض المعركة.. ذلك الإنسان الذي تحرك صوب هدفه في حركات القسام والبنا وغيرهما، وهو يحمل في دمه وأعصابه إيمان وذكاء وأخلاق عمر، وبطولة وتفاني وإقدام صلاح الدين لكنه أوقف منذ اللحظات الأولى عن المضي في الدرب حتى النهاية.. ثم ما لبثت المأساة أن حلت ولم تجد فلسطين بعد ذاك- إلا نادرًا- إنسانها البر الشجاع، وعندما ستجده، وهي لا بد واجدته قصر المدى أم طال، فإنها ستجد أملها ومستقبلها، وستعانق حريتها ومصيرها…
من أجل ذلك قالت مجلة الإيكونومست البريطانية في حزيران من عام ١٩٦٢ تعليقًا على المؤتمر الإسلامي الذي عقد بعد حج ذلك العام في مكة المكرمة «إننا نستهجن المحاولة الجديدة، ولعلها تكون الأخيرة، في سبيل بعث الإسلام كقوة سياسية تعارض القومية العربية.. وباستثناء فلول الإخوان المسلمين المشردين والمغلوبين على أمرهم، فلا يوجد في العالم العربي اليوم فئات غيرها ذات وعي سياسي يضع الإسلام ومجموعة الشعوب الإسلامية فوق القومية العربية»..
وستظل مأساة فلسطين نداء محزنًا يتردد بين عربي معاصر فقد أصالته وارتمى في أحضان الغرباء، أو اعتصرته الشهوات. وبين إنسان مسلم منعه طواغيت الحكم وربائب الأعداء من أن يبرز على الساحة يجاهد ويكافح وهو مؤمن حتى الأعماق بحديث رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم عن ذلك اليوم الذي سيقتل فيه المسلمون أعداءهم اليهود، وستقف إلى جوارهم، يومها، حتى الأشجار والأحجار وهي تنادي: يا مسلم هذا يهودي خلفي تعال فاقتله.
«2» ماذا بعد الاعتراف؟
إذا أردنا أن نلقي نظرة مسبقة على مصيرنا بعد مقولة الاعتراف باحتلال اليهود لفلسطين، فلنا أن نسأل أنفسنا وقادتنا وزعماءنا: هل للعربي المعاصر قدرة على مجابهة رأس مال اليهود المتمرس ونسائهم وماكيا فلليتهم؟ وإذا كان الجواب بلا، وهو قطعا سيكون كذلك.. فلماذا إذن نسلم أنفسنا إلى الهزيمة الحقيقية الأخيرة في تاريخ صراعنا مع اليهود؟ ولماذا إذن نقطع على أنفسنا الطريق ونسعى بملء إرادتنا إلى الزاوية التي ستفقدنا وجودنا كأمة لها حضارتها وعقيدتها وتاريخها ومستقبلها؟
إننا يجب أن ندرك الأبعاد الحقيقية لصراعنا مع اليهود، إنها أبعاد حضارية لا تقتصر على السياسة والحرب والاقتصاد فحسب، بل تتعداها إلى كل الآفاق العقائدية والثقافية والنفسية والأخلاقية والسلوكية.. إن حركة التاريخ لا ترحم، وهي عندما تصعد صراعًا بين أمتين إلى المستوى الحضاري، فإن نتيجة واحدة يمكن أن تنجم عن هذا الصراع، لا بديل لها، وهي أن إحدى الحضارتين ستنتصر والأخرى ستنهار وتموت..
إن وجود الكيان الصهيوني في قلب عالمنا الإسلامي يمثل تركيزًا خطيرًا لتحدي الحضارة الغربية الأوربية الأمريكية لنا، مضافًا إليها كل ما يملكه اليهود من معتقدات وقدرات ماكيافيلية في عالم الصراع لذا فهو تحد، مركب صليبي يهودي، يسعى لتوجيه الضربة القاصمة للأمة التي طالما انتصرت على هجمات الصليبيين واليهود، وطالما خرجت عبر تحدياتهم وهي أصلب عودًا وأقدر على الاستمرار والتطور.. ومن هنا نجد هذا التجاوب العفوي العميق بين جماهير الغرب المسيحية، وبين تطلعات اليهود وأهدافهم، هذا التجاوب الذي يسود القواعد البشرية المسيحية كما وجد تعبيره على مستوى القيادات بالإعلان الذي أصدرته البابوية في تبرئة اليهود من دم السيد المسيح (عليه السلام) «وبالمنشور الذي أعقب ذلك معلنا حق يهود.... في أرض الميعاد»
وهكذا يبدو أن صراعنا مع الصهيونية قد حشدت له من جهة العدو كل قوى التعارض وطاقات الصراع التاريخي الطويل بين الإسلام وأعدائه.. ومن ثم -كذلك- كان علينا أن نمد مقاومتنا للعدوان إلى كل مساحاته الحقيقية، وأن نعمل على مستوى التاريخ والحضارة وليس على مستوى الحرب والسياسة والاقتصاد فحسب.. وأول ما يفرضه موقف صحيح شامل كهذا هو ألا ندعي لليهود فرصة التسلل إلى مواقعنا الحضارية: دينًا وثقافة واجتماعًا وأخلاقًا وسلوكًا وروحًا، بعد أن سمحنا لهم بالتسلل إلى مواقعنا السياسية والعسكرية والاستراتيجية، لأن تسللهم التالي سيكون أخطر بكثير، وسيعمل لانتصارهم السياسي والعسكري بعده الحقيقي الحاسم، لأنهم سوف يعتمدون هذا النصر لضربنا في الصميم وإفقادنا قيمنا وتراثنا وحضارتنا، وتفكيك علاقاتنا وأواصرنا، وتمييع أخلاقنا وسلوكنا، وسحق إيماننا وصمودنا.. ضربات متلاحقة في الصميم، ستنتهي بأن نغدو كعرب مسلمين خبرًا من الأخبار، الذي تمثله الصهيونية مضيفة إليه كل، وسنضيع في غمار التحدي الحضاري الغربي طاقات اليهود وميزاتهم التاريخية ورغباتهم العاتية في سحق وتدمير كل من يقف في طريقهم معتمدين أموالهم ونساءهم وخداعهم ولن تجيء هذه الضربة المميتة ما دمنا قد سددنا على الصهيونية منافذ التسلل إلى مقاتلنا، وحصرنا نشاطها المعادي وحركتها التاريخية المضادة في نطاق استراتيجية السياسة والحرب.. ولكنا سنمنحها هذه الفرصة يوم أن نسمح لأنفسنا وقياداتنا بأن تعترف بها، وتسالمها وتفتح أمامها الدرب العريضة للوصول إلى أهدافها الحقيقية الحاسمة.. ولات حين مناص..
«3» المساحة السوداء
إن مقارنة بسيطة بين فاعليات سفرائنا في الخارج وسفراء الدول الأخرى، ونظرة مستعجلة على شخصيات ومطامح واهتمامات هؤلاء، تطلعنا على سبب من أكبر أسباب هزيمتنا النفسية والسياسية والإعلامية أمام الرأي العام العالمي، رغم أننا لا نؤمن بما لهذا الرأي العام من دور حاسم خطير في صراعنا مع اليهود..
إن سفراءنا دمى فقدت القدرة على الحركة الذاتية، وشخصيات هزيلة فقدت هوياتها، ولم تعد مطامحهم يوما حدود الأرض الجميلة التي أقيمت عليها سفاراتهم والبيوت الفارهة التي قيل لهم: ناموا فيها..
يخرجون إلى عواصم العالم، بعضهم من عوائل كبيرة أفسدها الترف وجمد قدراتها، وآخرون من عوائل صغيرة لكن ملقهم وجبنهم وانتهازيتهم قذفت بهم بعيدًا إلى قارات الدنيا وعجائب الأقاليم السبع.. وفئة ثالثة منهم نفيت من بلادها فخرجت لا تحمل لبلادها تلك إلا الحقد والآلام.. يخرجون كموظفين عاديين لا يحملون معهم فكرا ولا عقيدة ولا هدفا ولا يتشوقون إلى تحقيق أهداف وتسجيل نقاط على خارطة برنامج سياسي مدروس مفروض فيهم أن يحملوه معهم ويتفانوا في تنفيذه وتجاوزه إلى خرائط أخرى أوسع وأبعد وبينما يتحرك سفراء العالم في عواصمنا بذكاء وديبلوماسية وإخلاص، فيهيئون للانقلابات الدائمة، ويقيمون الحكومات، ويسقطون النظم التي تند عن طريق برنامجهم المدروس المرسوم.. إذا بسفرائنا يضربون في عواصم العالم وبلدان الأرض مثلًا عمليًا على ضعفنا وتمزقنا، ويعطون لحكومات وشعوب الدول التي يعملون فيها الدليل على أننا لا زلنا بعد في مرحلة الوصاية وأن من الخير لنا ألا نطلب النظام وأن تظل أفواهنا معلقة بلندن وواشنطن وموسكو، ترضع لبنها، وتشب على الإعجاب بطرائقها في الحياة، وعلى الخضوع والخنوع والطاعة للأمهات اللواتي رعيننا وأرضعننا
كم من سفرائنا في بلاد العالم حركته هزائم أمته ودفعته إلى أن يبعد ولو قليلا عن مواضع الركود والفساد إلى آفاق الحركة والطموح والنشاط المدروس، وكم من سفرائنا في قارات العالم هزته نخوة آبائه العرب وحميتهم فخرج إلى الشوارع والساحات لكي يخطب في شعوب العالم، ويسمعها صوت فلسطين التي دهمتها الذئاب، ويقود التظاهرات ليعرب عن سخط المظلومين على الظالمين، والمجردين من السلاح على الذين جردوهم فقتلوهم، وهل خطر ببال أحد من سفرائنا يوم أن يجتمعوا ويتدارسوا الأمر من كل أطرافه، ويرسموا خارطة عمل مرحلي على مستوى العالم الإسلامي أو العربي كله من أجل أن تكون أهدافهم متقاربة متوحدة، ومن أجل أن يكون عملهم مخططًا مدروسًا، ومن أجل أن يكون لوجودهم ثقل في ميدان الصراخ السياسي والعلاقات الديبلوماسية، وعلى أي أساس يجتمعون إذا كان رؤساؤهم في البلاد التي قذفت بهم لا يعرفون هدفًا ولا يتلمسون طريقًا.
إن مواقف سفرائنا في الخارج مساحة سوداء على خارطة تاريخنا المعاصر.. وكان من الممكن أن يضيئها وهج دماء القتلى والشهداء على أرض فلسطين.. لكن القلوب قد عميت وغطت عليها النكت السوداء.. وكيف يكون لوهج الدم قدرة على الإثارة والإبصار، إذا كان زبد الخمرة وسعير الشهوة يصدهم عن كل وهج، ويصم آذانهم عن كل نداء؟
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل