; إيران.. مرحلة الإعمار والتيار الانفتاحي | مجلة المجتمع

العنوان إيران.. مرحلة الإعمار والتيار الانفتاحي

الكاتب محمد امين العباس

تاريخ النشر الثلاثاء 06-ديسمبر-1988

مشاهدات 30

نشر في العدد 894

نشر في الصفحة 44

الثلاثاء 06-ديسمبر-1988

تسببت موافقة القيادة الإيرانية المفاجئة على قرار الأمم المتحدة رقم ٥٩٨ في إضفاء مزيد من الغموض على الأوضاع السياسية للثورة الإيرانية. فقد كانت إیران کما تبدو للمراقبين الدوليين دولة طغى على قرارها السياسي الاندفاع الآلي لمواصلة الحرب وما كان في الحسبان أن ينفلت ذلك النمط السائد بمجرد إجراء بعض التغييرات السياسية. إلا أن واقع الساحة السياسية الإيرانية أبدى مرونة مدهشة قلبت تلك التوقعات رأسًا على عقب. فقد تجلت مواقف القيادة الإيرانية في أحكام التوقيت على النوازل السياسية في تدرج يضبطه نهج علمي تجاوز الشوفينية الثورية التي طالما تحكمت آليتها في مسار الثورة عند عهودها الأولى. وفي غضون الاستغراب التحليلي للوضع السياسي تظهر إلى السطح أحداث تتصل ببروز بعض الاتجاهات داخل أركان القيادة الإيرانية وتبع ذلك البروز ظهور بعض الشخصيات داخل القيادة... وبالتالي انحسار بعض التوجهات المتشددة واختفاء بعض الشخصيات المتطرفة.. ويبقى السؤال الملح عن طبيعة التحولات وما هو حقيقة الأوضاع السياسية في إيران في ظل المتغيرات السائدة؟ 

التركة:

ربما يعن للبعض أن موافقة إيران على وقف الحرب جاء نتيجة طبيعية للوضع العسكري الذي هيمن على جبهة القتال. إلا أن واقع الأمور وبواطنها تعني أعمق من ذلك. وعمق هذه الأوضاع هو الذي ألقى بظلاله المتكاثفة على القرار السياسي والوضع السياسي بعامة... فالقيادة الإيرانية وجدت إرثًا متعاظم الآثار السلبية تبدو الحلول الآنية إلى جانبه ضرب من المناورات غير مضمونة النتائج... ولذا تكون ما يشبه خيارات رئيسية حتمت على أركان النظام أن تجد في خلق حلول تأخذ في حسبتها الطبيعة العملية... فقد كانت التركة ثقيلة التحمل إلى جانب معالجة الأوضاع التي سادت قبل وقف الحرب. 

ففي الجانب المحلي كان الوضع الاقتصادي يشير بالضرورة إلى حدوث تغييرات جذرية فقد انخفض الإنتاج الزراعي منذ عام ۱۹۸۱ ويعزو كثير من اقتصاديي إیران ذلك الوضع إلى سياسة الإصلاح الزراعي التي انتهجتها الثورة في مطلع عهدها حيث هيمنت الدولة على النشاط الزراعي وذهبت توجه توجيهًا شموليًا مركزيًا مما أعاد للأذهان آثار الإصلاح الزراعي الذي تبناه الشاه في مطلع الستينات، وزاد العجز في الميزان التجاري وربما يبدو ذلك طبيعيًا في ظل استمرار الحرب غير أن المعالجة لا بد وأن تضع في حساباتها أن نتائج الطموحات لن تأتي دون تغييرات هيكلية وإصلاحات بنيوية في ذات العملية الاقتصادية ككل. وإلى جانب ذلك فإن التضخم بلغ أكثر من ٦٠٪ سنويًا منذ عام ١٩٨٥ يعني أن هذا الغلاء الذي يرتفع في السلع الضرورية بنفس النسبة قد زاد في إثارته لطبقات واسعة في الشعب الإيراني فقد ذكر «بخفبادي» أحد النواب في مجلس الشورى الإيراني بأن ۱۲ مليون إيراني يعيشون دون مستوى خط الفقر «الدولي» أي دون امتلاك ما يقيم الأود ويسد رمق الجوع.... وأن ۲۲ مليون يعيشون في رحمة الدعم الذي تقدمه الحكومة للسلع الأساسية. فالقيادة الإيرانية وهي تحس آثار هذه الأوضاع لا بد أن تستجيب إلى مساعي الحلول والخروج من ضغطها ويكون ذلك بمزيد من التلاحم وجمع الصفوف كما يقول الخميني. إن بذر الخلاف في هذه الفترة يعتبر إثمًا عظيمًا، وتكرر الدعوة إلى إبداء السماحة والتنازل عن الصور المتشددة كما يقول هاشمي رفسنجاني رئيس مجلس الشورى «إذا ما حسبنا الظروف وتخلينا عن بعض قصر النظر وعن بعض تجاوزاتنا وبعض الأوجه الفظة التي اقتضتها متطلبات المراحل المبكرة للثورة، فإننا نستطيع جذب الأصوات الخارجية» فالدعوة لإعادة البناء ومعالجة قضايا الحاضر تعتمد في رؤية رفسنجاني على إظهار كثير من المرونة السياسية حتى ترص صفوف الجبهة الداخلية لأحداث الأهداف والطموحات المنشودة. 

القرار والمرحلة:

في ٣ يونيو ۱۹۸۷ صدر قرار رئاسي بحل حزب الجمهورية الإسلامي الذي أسسه آية الله بهشتي عام ۱۹۷٩... والحزب كان يضم أكثر الفعاليات السياسية في أوساط المتدينين كما أنه لا يمانع في ضم العلمانيين الذين يرغبون في توجيه إيران «على طريق الإسلام والإمام الخميني» غير أن الحزب بمرور الأيام أصبح يشكل مجلس وجهاء أكثر منه حزبًا سياسيًا يعتمد برنامجًا سياسيًا محددًا وواضحًا فقد ساعدت طبيعته التكوينية على جمع المتناقضات الفكرية والسياسية مما جعل أمين الحزب «رفسنجاني» أول المؤيدين لحله يوم جاء قرار الحل.. وبالمقارنة فإن القيادة الإيرانية تكاد تتطابق وقائع حالها مع وقائع الحزب الجمهورية... فالقيادة الإيرانية كانت وما زالت تجد أن الحوار بيد أطرافها الذي قد يترفع أحيانًا إلى درجة الصراع واقعًا لا ترى ضرورة في تجاوزه بالصمت والتعتيم.. وربما يرجع ذلك الصراع إلى أن الثورة الإيرانية لم تكد تخطو خطواتها الأولى إلا وقد جدت عليها قضايا الحرب والنزاع مع المجتمع الدولي مما قلل فرص إقرار قيادة موحدة الأهداف منسقة التصورات. 

وأغلب هذا الصراع كان يرتكز إلى قناعات سياسية وتصورات عقائدية يظن مروجوها أن أي حل مخالف ربما ينتج عنه زلزال سياسي عظيم.. وغياب الظروف المساعدة لإنضاج ثمرة الحوار والصراع كانت وراء النزاع الذي أدى إلى غياب كلي لبعض القادة الإيرانيين أو جزئي كما هو الحال مع قادة المعارضة الإيرانية في الداخل حزب حركة التحرير بقيادة مهدي بازركان.. والصراع في السيطرة على القرار حقيقة مقرة من قبل القادة الإيرانيين أنفسهم ولا ترى القيادة في ذلك معرة أو حرجًا ولكن المرفوض هو أن يتخذ ذلك الصراع سلمًا لإحداث الفتنة وزعزعة الوحدة الوطنية وفي هذا يقول هاشمي رفسنجاني –رجل إيران القوي– إن الخلافات في الرأي بين القادة الإيرانيين ما زالت عميقة تجاه العديد من القضايا السياسية منها والاقتصادية. كما أن الخلاف يتسع بينهم عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية ولم تنجح القيادة بمعالجة المظاهر اليومية للحكم الإسلامي... فالقرار السياسي في إيران يتأرجح بين مجموعتين أحداهما عملية «برغماتك» والأخرى محافظة متشددة. 

تيار المرحلة:

في أعقاب الانتخابات التي جرت في مايو الماضي ظهر للعيان بأن تيار الاتجاه المتشدد لم يحظ بالثقة التي ظل يحتكرها طيلة الفترات السابقة وأن تيارًا جديدًا أكثر تفهمًا وانفتاحًا على الواقع أطل بوجهه ضمن القيادة الأساسية. فلقد كان واضحًا أن قدرة التيار العملي «البرغماتي» تجاوز مجرد الحضور القوي في القرار السياسي إلى سيطرة فعلية على هذا القرار وجاء اختيار هذه القدرة عندما عرض رئيس الوزراء مير حسين موسوي حكومته على مجلس الشورى طالبًا الموافقة على اختیاراته فقد رفض المجلس ثمانية وزراء من التشكيل الذي تقدم به وكان من أبرز الشخصيات التي رفضها المجلس «محسن رفیق دوست» وزیر الحرس الثوري والذي يعد أحد أعمدة التيار المتشدد، وقد حاول حسين موسوي عمدة التيار المتشدد تقديم استقالته غير أن رئيس الجمهورية علي خامنئي رفض تلك الاستقالة فزاد بذلك في حدة الموقف الخرج الذي لقيه التيار المتشدد... ويدعم التيار المتشدد أحمد الخميني ابن الزعيم الإيراني وتتمثل قيادته في كل من علي أكبر محتشمي وزير الداخلية ورئيس الوزراء مير حسین موسوي ورئيس الحرس الثوري رفيق دوست في مقابل التيار العملي (البرغماتي) الذي يقوده هاشمي رفسنجاني ويدعمه آية الله منتظري الخليفة المنتظر للخميني.... من أبرز رجاله حسين حبيب وزير العدل ووزير الخارجية على أكبر ولايتي الذي حظي بثقة عالية في مجلس الشورى كما يحظى التيار العملي بتأييد أردبيلي. 

وقد ساعد في تمايز المواقف بين التيارين إضافة لموقف إنهاء الحرب التصورات المتعلقة بالتطورات الديبلوماسية في السياسة الخارجية لإيران إبان وبعد الحرب، فالتيار العملي يرى ضرورة إقامة علاقات جيدة مع أغلب دول العالم كما يسعى إلى تحسين علاقاته مع دول الجوار في الخليج العربي ويؤكد على التفريق بين العلاقات الدبلوماسية والحقائق المبدئية التي تدعو لها الثورة أي إنه يمايز بين مرحلة الثورة والدولة في حين أن التيار المتشدد يرى عدم التوسع في علاقاته مع الغرب وبفضل علاقات حسنة مع الاتحاد السوفياتي في جانب السياسة الداخلية فإن التيار العملي يدعو إلى إقامة أحزاب سياسية متقيدة وبالمبادئ الرئيسية للثورة كما يدعو إلى تقليص نفوذ الحرس الثوري بالتالي وتدعيم الجيش، وفي المجال الاقتصادي لا يسعى التيار العملي إلى إحكام القبضة على النشاط الاقتصادي وإنما يدعو إلى تدعيم السوق «البازار» ومعالجة القضايا المتعلقة بالإنتاج والإصلاح الزراعي وفقًا لاستراتيجية طويلة الأجل خلافًا للتيار المتشدد الذي يعمل من أجل العدالة الاجتماعية ويشدد على التوجيه المركزي للنشاط الاقتصادي.. وفي المجال الاجتماعي فإن التيار العملي يعمل على كسب التجمعات والأقوام وفقًا لتعددية وثيقة الصلة بالوحدة الوطنية كما أن المرأة عليها أن تلعب دورًا رائدًا في الحياة الاجتماعية وأن تؤدي دورها في إطار الحرية الإسلامية المتاحة للمرأة.. ونظرًا لأن التيار العملي يمتلك حاليًا كثيرًا من مفردات لغة الخطاب السياسي الإيراني فإن مستقبل مرحلة الإعمار يتصل بتوجهاته إلى حد كبير. 

مستقبل:

ويعتمد مستقبل الأوضاع السياسية في إيران على مدى نجاح التيار العملي في كسب ثقة الجماهير بعد أن حاز بصورة جيدة على ثقة مجلس الخبراء ومجلس الشورى وإن كان مؤقتًا استطاع تحييد كثير من الفعاليات السياسية شبه المحافظة فقد أظهر مهارة قائده رفسنجاني في كسب ثقة الزعيم الخميني بعد ثقة حسین منتظري وبذلك تبقى الخطوات المرحلية للتيار قد وفرت لنفسها أسباب النجاح مما يجعل مستقبل العمل السياسي الإيراني يبدو أنه يسير على التركيز نحو الدولة وسط الشرعية الدستورية وفقًا لمقالة منتظري «الوقت الذي كنا نكفر فيه الناس قد ولّى أو توجه لهم تهمًا مختلفة لأنهم يعلنون بعض الحقائق» وفي هذا النطاق ربما تعود التعددية الحزبية إلى الساحة السياسية كما يعود مجلس الخبراء إلى نشاطه في المحافظة الدستورية لسيادة القانون. ويبقى في تقدير الأحداث أن الوقت ما زال مبكرًا في تحديد توجهات النظام الإيراني تجاه قضاياه المطروحة بالرغم من تبين السمت العام لهذه التوجهات.

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

نشر في العدد 9

123

الثلاثاء 12-مايو-1970

نشر في العدد 18

99

الثلاثاء 14-يوليو-1970