آداب الحوار مع المخالف.. إضاءات للترشيد
حين فكرت في كتابة مدخل لهذا المقال قفز إلى ذهني رفع الواقع الحالي الذي
لا تكفي كتابته مجلدات، فهل أبدأه ببيان مدى جدوى المناظرات القائمة الآن في كل
يوم على مشهد من الآلاف التي سهلتها وسائل التواصل الاجتماعي؟ أم بيان ما يصير في
بعضها من مخالفات لأصول العلم والعقل والديانة؟ أم تقييم الأمر برمته حسب ميزان
المصالح والمفاسد الشرعية ليكون مقدمة للحكم عليه؟
وقد عدلت عن ذلك كله إلى تدوين إضاءات مختصرة لترشيد هذا العمل القائم
بالفعل، وأبدأ ذلك ببيان أن للإسلام تصوراً عن آداب الحوار مع المخالف، وأن عددًا
هائلًا من أهل العلم تكلموا بشأنه، بل وصنف بعضهم فيه مصنفات مستقلة، وأول ما يجب
التنبه إليه في هذا التصور أن الآداب في نظر الإسلام ليست مجرد إرشادات يحسُن
مراعاتها فحسب، بل هي أحكام وضوابط تُصلح العمل لقبول الله تعالى له، ويحصل بها
المقصد المرضي، وها هي الإضاءات في مراتب أربع.
1- الأدب مع الله تعالى:
وجماعهُ قول الله تعالى: (وَالْعَصْرِ {1} إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي
خُسْرٍ {2} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا
بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر)، فأما الإيمان والعمل الصالح: فإن مقصد الحوار لا بد أن
يكون لله فحسب؛ لا رياء فيه ولا سمعة، وأن يكون في أمر يُشرع مناقشته، ويؤكد ذلك
قول الله عز وجل: (فَمَن
كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ
بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف: 110).
وأما التواصي بالحق فهو المقصود الذي يثيب الله تعالى به، وهو المنهج الذي
لا تصح مخالفته في أي كلمة تخرج حال النقاش، وأما التواصي بالصبر: فلن يدعو أحد
إلى الحق إلا وسيكون له أعداء يفتنونه عنه، فإن صبر فقد حصَّل ثواب ما سبق من
الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق، وإن لا فقد باء بالخُسر، وحري بكل محاور أن
يخشى حبوط عمله إن فاته هذا الأدب الرفيع من حفظ وصايا الله تعالى تلك.
2- الأدب مع النفس:
رأسمال الداعية إلى الله رعاية قلبه، فإن الله عز وجل لا ينفع في الآخرة
بكثرة كلام أو عمل لا يُثمر في سلامة القلب؛ (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ
{88} إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء).
ومعلوم ما يحصل في الحوارات والمجادلات من اجتماع أسباب قسوة القلب وتوارد
آفاته، فإن لم يعتصم المرء بخلوص القصد والتجرد للحق حتى يبقي على سلامة قصده؛ فقد
أساء الأدب معها.
ومن تلك الإساءات عدم اعتبار الضرورات العقلية، والوقوع في المغالطات
المنطقية، فذلك مما يُزري بالنفس، وكذلك خوض المرء فيما لا يُحسن، وما أكثر ما يقع
ذلك! وما أشد ضرره على نفس المرء وقلة ديانته وخفوت مراقبته لربه! بل وما يتعدى
ذلك إلى نفوس سامعيه.
وكذلك التجرؤ على ما يخالف به المرء طبيعته، كأن يُقدم على دعوة تستدعي
الصبر فيجزع، أو تستدعي الهدوء فيغضب، أو تستدعي الشدة فيلين، بل ينبغي له تنزيه
نفسه على أن يكون في مسؤولية لا يقدر تبعاتها؛ فلا يُقدم إلا على ما يحسن.
3- الأدب مع الحق:
من الأدب تجاه الحق أن يعظمه المرء في نفسه، فيعرف ما سيحاور فيه حق
المعرفة، ويكون هدفه من الحوار ظهور الحجة لا حمل مخالفه عليها قسرًا، وأن يحدد مع
محاوره الموضوع المناقَش بدقة؛ فلا يتشتت الحوار ويحيد كل منهم عن المقصد، وأن
يتفقان معًا قبل المحاورة على القدر المشترك بينهما حتى يبنيان عليه ما يريدان
إثباته؛ فتظهر حجة المحق باتساقها معه ويظهر خطأ المخطئ، وأن يعلم أن الحق مستغن
عن الحيلة؛ فلا يفعلها إلا وقد رقَّ تعظيم الحق في قلبه، وألا يلجأ إلى زخرف
القول؛ فيركز خطابه في المضمون دون تزيين.
وألا يتكلم بكلمة ليس عليها دليل؛ فإن كان الحق ظاهرًا فدليله أظهر منه،
وألا يستكبر إن كان الحق مع خصمه أن يذعن له، وألا يبذل وقته الذي استخلفه الله
فيه في أمر لا فائدة له، أو يترك الفاضل لأجل المفضول.
4- الأدب مع الناس:
من أظهر علامات حيازة الحق وأعظم أسباب هداية المخالف التزام المرء بالآداب
تجاهه، فذلك مما يصدّر شعور الشفقة عليه وإرادة الخير له، أما العكس فهو من أسباب
النفور عن الحق، ورغم ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التأييد من السماء
وحيازة الحق الذي لا يشوبه شيء فقد قال الله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ
كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: 159).
ومن تلك الآداب أن يخاطب محاوره بما يستطيع فهمه دون إلغاز أو غموض؛ حتى لا
يرد الحق لسوء قالبه، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «حدثوا الناس بما
يعرفون، أتريدون أن يُكذَّب اللهُ ورسولهُ؟!» (رواه البخاري، 127).
وألا يستخف به وإن كان خفيف العقل، وألا يسبه؛ ففي ذلك اجتنابٌ لقصد الحق،
واجتلاب سباب المخالف له أو لما عليه من حق، قال الله تعالى: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ
يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام:
108).
وأن يكون المحاور طويل النَفَس؛ فلا ييأس سريعًا من مخالفه ولا ينفِّره
عنه، وأن يحرص على تجنب أسباب السُّمعة بأن يناقِش في الخفاء لا العلن، إلا من غلب
على الظن فائدة مناقشته علنًا، وأن يوقف الحوار إذا حاد عن الجادة فأصبح لجاجًا
يُنتصَر فيه للنفس، قال الغزالي: «من غلب عليه حب الإفحام والغلبة في المناظرة
وطلب الجاه والمباهاة؛ دعاه ذلك إلى إضمار الخبائث كلها في النفس، وهيج فيه جميع
الأخلاق المذمومة» (إحياء علوم الدين، 1/ 76).
إن مما يحسن قوله أن الهدي العام للإسلام يدفع إلى بذل الوقت والجهد في
التعلم والتعليم، وليس تكثير المسائل التي هي سبب في الاختلاف، قال النبي صلى الله
عليه وسلم: «فإنَّما أَهْلَكَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ، كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ،
وَاخْتِلَافُهُمْ علَى أَنْبِيَائِهِمْ» (رواه مسلم، 1337)، فلا يُلجأ إلى مناقشات
ومحاورات ومناظرات إلا في أضيق الحدود، كأن تكون في أمور ظاهرة تُقام فيها الحجج
على المخالف فيهتدي هو أو غيره، أما أن يكون ذلك هديًا عامًا للبعض فيقسو بذلك
قلبه ويُقسي قلوب غيره ويضيع الأوقات وينشغل عن الطاعات الواجبة ويكسب الآثام بمخالفة
الآداب؛ فذلك مما لا ينبغي.