أبطال من «طوفان الأقصى».. تضحيات خالدة لا تُنسى

ياسمين عنبر

24 نوفمبر 2024

3105

في مارس الماضي، خاطب الفنان الفلسطيني رشاد أبو سخيلة العالمَ وكتب على صفحته: «من شاب جامعي يحب قراءة الكتب، يكتب الشعر، يعمل في مجال الدراما والبناء الثقافي، يمتلك شقة سكنية بسيطة ينوي الزواج والاستتار بها، إلى شاب خسر جامعته وعمله وشقته».

لم يكن يتخيل الفنان أبو سخيلة أن تنفلت أحلامه من يديه بهذه الطريقة منذ بدء الحرب على غزة! فقد كان يقضي حياته بين الفن والكتابة والشعر، حاصدًا نجاحات كثيرة، أبرزها اتخاذه دور البطولة في مسلسل «قبضة الأحرار» الذي كان عملًا فنيًا ضخمًا ردًا على المسلسل الصهيوني «فوضى»، محاولًا تجريم الشعب الفلسطيني وإظهاره كخائن مخترق من قبل الاستخبارات «الإسرائيلية»، فجاء المسلسل دحضًا للرواية الصهيونية التي بذلوا كل شيء لأجل إقناع العالم بها.

30 حلقة كان المسلسل، أبدع فيه الفنان أبو سخيلة إبداعًا منقطع النظير، حيث اعتمد على قصص حقيقية حدثت شرق محافظة خان يونس جنوب القطاع قبل 3 أعوام، تبرز الصراع بين المقاومة الفلسطينية وأجهزة الاستخبارات «الإسرائيلية»، وعرض على أكثر من 32 قناة عربية تلفزيونية وترجم إلى الإنجليزية، كما دبلج إلى التركية.

هو ابن مخيم جباليا الذي أبصر النور عام 2001م، وتخرج قبل الحرب في كلية الصحافة والإعلام في جامعة الأقصى بغزة، وأطلق عليه أصغر شاعر فلسطيني حين أصدر ديوانه الشعري «حروف التراب»، الذي جمع فيه 27 قصيدة عن الوطن والحب والقدس والدين.

كان يحلم أبو سخيلة بانتهاء الحرب ليعود إلى كتاباته وفنه، إلا أن صاروخاً غادراً على مدرسة الفاخورة حيث ينزح فتت جسده وأحاله إلى أشلاء، فقد قتل الاحتلال أمنياته ودفنت أحلامه معه أن يكون شاعر فلسطين في المحافل الدولية، وأن يطبع ديوانه الشعري الثاني الذي كان سيخصصه عن الحرب والأحلام التي قتلت بها.

عائلة شهيدة

على منسأة الأدب والفن قاوم أبو سخيلة، ليسطر بطولاته وصموده بأجمل صورها في الحرب وقبلها، وعلى الجبهة الطبية قاوم د. عمر فراونة بشهاداته وإنجازاته حتى لقب بـ«رائد الطب الخيري في غزة».

فقد عاد فروانة بمجرد انتهاء دراسته للطب في جامعة القاهرة، ثم ابتعثته الجامعة الإسلامية إلى بريطانيا لدراسة الدكتوراة في وظائف الأعضاء من جامعة لييدز هناك، وبعدها ذهب إلى أستراليا ليتخصص في طب الذكورة والعقم، وأخيرًا عاد إلى غزة لينهل أهلها من علمه.

في غزة تقلد فروانة عميدًا لكلية الطب بالجامعة الإسلامية وأستاذًا مساعدًا فيها، وكان له دور كبير في الطب الخيري بغزة، فكان من مؤسسي مستشفى الخدمة العامة الخيرية، ومن مؤسسي عيادة أصدقاء المريض.

6 ليال فقط عاشها فروانة في معركة «طوفان الأقصى»، لينهال البيت فوق رؤوس عائلته وهم نيام في الليلة السابعة من العدوان على غزة، وبصواريخه اغتال الاحتلال سير عائلة لها باع طويل في درب العلم والنجاح، فارتقى هو و15 شخصًا من أبنائه وأحفاده.

شبيهة أبيها

د. آية كانت إحدى بناته اللواتي ارتقين في الاستهداف الذي شنه الاحتلال عليهم، آية التي قالت منذ الساعة الأولى من المعركة: «نحن واثقون بنصر الله، غزة دفعت كفارة الذلة والمهانة وأعادت لنا مجدنا السليب».

لم تستسلم آية للخوف والرعب الذي سكن قلوب أهل غزة من اشتداد الأحزمة النارية، وكثرة الصواريخ التي تنهال عليهم وهم نيام، بل كانت آية في الثبات والصبر والصمود وكانت تثبت من حولها، وتكتب للعالم عن الثبات والتثبيت.

كانت آية رفيقة أبيها في مهنة الطب، ووريثة جدها الشاعر الفلسطيني صالح فروانة في الكتابة والشعر، يصفها الجميع أنها تحمل قلبًا من زمن الصحابيات، وهي طبيبة حاصلة على شهادة البورد في طب العائلة قبل شهور من استشهادها.

وفي أمومتها كانت تضرب أروع الأمثلة والنماذج، فكانت تتجهز بناتها إلى سرد القرآن الكريم على جلسة واحدة، ولبسن الحجاب بعمر صغير اقتداء بها، فكن غراس أمهن العظيمة التي كانت قدوة لكثير من الأمهات.

كما رحلت معه ابنته المهندسة المتميزة إسراء وأطفالها الثلاثة، وهي زوجة الإعلامي الفلسطيني أحمد قنيطة الذي كان في رحلة علمية عند نشوب الحرب، وبمجرد نشوبها عاد إلى غزة، إلا أن المعابر أغلقت وحالت دون أن يصل إلى أطفاله وزوجته، ليرتقوا شهداء دون أن يودعهم ويطبع على جبينهم قبلات الوداع.

أبطال صغار

لم تكن البطولة في غزة مرهونة بعمر معين، فقد سطر أطفال صغار بطولات لا تنسى في سجل التضحيات الفلسطينية، وارتقوا شهداء ولم يتجاوز عمرهم أصابع اليد، لكنهم كانوا آية وقدوة لكبار.

الشهيد الطفل أسامة اللي ابن السادسة، كان من أصغر الحافظين لكتاب الله في فلسطين والساردين للقرآن على جلسة واحدة، ولم يكن هذا التميز وليد لحظة، بل بدأت رحلته منذ أن كان جنينًا في أحشاء أمه، فقد أسمعته القرآن مرات عديدة حين علمت أن الجنين يسمع في أول مراحل عمره، فأحبت أن يكون أول ما يسمعه بحياته كتاب الله ونذرته حافظًا له وعاملًا به.

سجلته أمه في مدرسة التابعين التي تعنى بتحفيظ القرآن الكريم، وبعد 6 شهور كان حافظًا له بعد جد واجتهاد من وقت الفجر حتى العصر حفظًا وتمكينًا، ثم سرد المصحف كاملاً على جلسة واحدة بدأت عقب صلاة الفجر، لتدوم لنحو 12 ساعة متواصلة.

حين اشتد القصف حولهم نزحوا إلى بيت آخر داخل غزة التي رفضت عائلته النزوح منها، وبقوا ثابتين صامدين فيها، وفي ليلة من ليالي الحرب القاسية وبينما يمسك القرآن بين يديه يراجع حفظه، انهال عليهم البيت بصواريخ مجنحة، فارتقى هو وعائلته شهداء تاركًا أثرًا لا ينسى للأطفال والكبار.

ريشة مقاومة

وبريشتها تركت فراشة مخيم جباليا كما أسموها الفنانون أثرها في حرب «طوفان الأقصى»، محاسن الخطيب الرسامة التشكيلية التي تبرعت بفنها ليكون لها صدقة جارية حين استشهادها.

كانت محاسن تشتهر برسوماتها التي تجسد واقع الغزيين في أيام الحرب الشديدة، وتمزجه بخيالها الفني في محاولة للعيش بسلام والوصول إلى الحياة رغم عذابات الأيام.

كانت آخر الرسومات التي رسمتها محاسن طفلاً يشتغل بنار الصاروخ في خيمته، فقد كانت تجسد به قصة الشاب العشريني شعبان الدلو الذي احترق على البث المباشر أمام العالم وكان يحاول البقاء بصد النار الملتهبة من حوله بيديه الصغيرتين.

قبل الحرب كانت الخطيب تصور بعدستها غزة، ترسم على جدرانها لوحات جدارية، وبعد بدء العدوان رسمت محاسن مشاهد من الحرب، ويوميات الغزي التي تقوقعت في طوابير الشقاء.

وبعد بدء حصار جباليا، نشرت محاسن على صفحتها الشخصية: «أتبرع بكل المادة العلمية والعملية للرسم كصدقة جارية»، دهش الجميع بها وبعطائها، فقد أتاحت مادتها بالمجان لكل رسامي العالم، فانهال رسامون من غزة ومن خارجها يمدحون فعلها ويشكرونه، وتحول منشورها إلى «تريند» على مواقع التواصل الاجتماعي وحصد عشرات الآلاف من المشاركات والمشاهدات والتعليقات.

وفي الأسبوع الثاني من حصار الاحتلال لجباليا، قصف البيت الذي تسكن محاسن بجانبه، فقتلها الاحتلال وارتقت شهيدة مع مجموعة من جيرانها.

نماذج فذة لشهداء قضوا نحبهم في «طوفان الأقصى»، ولكنهم تركوا أثرًا كأثر الفراشة الذي لا يرى، لكنه أبدًا لا يزول!


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة