أثر المحنة في تشكيل وعي الإسلاميين

ثمة فارق بين المحنة في معناها اللغوي العام، وتلك المحنة المترسخة في أذهان العاملين في حقل الدعوة الإسلامية والناشطين في العمل الإسلامي، فالمحنة وإن كان المقصود بها لغوياً الاختبار أو الابتلاء وهي مأخوذة من الجذر «م ح ن» فيقال: مَحَنَهُ الأمرُ؛ أي اختبره وامتحنه فهي مما يتعرض له كل إنسان ناشطاً كان أو غير ناشط، متديناً كان أو غير متدين، من مثل المرض أو الفقر أو الفقد أو غيرها من الحوادث، ولا يتجاوز أثرها في الوعي حدود نفس صاحب المحنة.

فيما أن المقصود بالمحنة التي ينتج عنها أثر في تشكيل وعي الناشطين الإسلاميين هي تلك الظروف الصعبة التي يمر بها الفرد أو تمر بها الجماعة نتيجة التعاطي بفاعلية وإيجابية مع الدعوة والعمل الإسلامي كالقمع السياسي أو الاستهداف الفكري، ومن ثم فإنها تمثل تحديًا قويا للإيمان أو للتمسك بالمبادئ أو للقدرة على الصمود والاستمرار.

المحنة في الإسلام

لا تعد المحنة في الذهنية الإسلامية مجرد أزمة أو اختبار عابر، بل هي جزء من السنن الإلهية التي يختبر بها الله عز وجل إيمان المؤمنين، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم صراحة في قوله تعالى في أول سورة «العنكبوت»: (الم {1} أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ {2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت)، إذ القول الغالب حول تفسير هذه الآيات هو أن الذين أجروا كلمة الشهادة على ألسنتهم وأظهروا القول بالإيمان عليهم ألا يعتقدوا أنهم يتركون بذلك غير ممتحنين، بل إن الله عز وجل يمتحنهم بضروب المحن حتى يبلو صبرهم وثبات أقدامهم وصحة عقائدهم لتمييز المخلص من غير المخلص.

المحنة في التراث

في ظل هذه الرؤية، فقد حرص التراث الإسلامي على أن يحفظ الكثير من قصص المحن التي تعرض لها قادة وعلماء ودعاة ومصلحون، التي لم تكن سبباً في انهيارهم، بل على العكس، فإنها ساهمت بشكل كبير في صنع الأحداث الفارقة وترسيخ الإيمان، وهو ما يجعل منها قوة دفع للمؤمنين في كل زمان ومكان للصمود ومواجهة التحديات.

ولعل ذلك هو ما يفسر الاستدعاء المتكرر للقائمين على العمل الدعوي لبعض قصص هذه المحن، ومنها مثلاً محنة الإمام أحمد بن حنبل حيث تعرض للتعذيب والسجن بسبب موقفه من قضية «خلق القرآن»، التي كان صموده فيها سببًا في صمود أهل السُّنة في وجه المعتزلة، أو محنة الإمام ابن تيمية حيث تعرض للسجن بسبب آرائه الفقهية والعقدية لكنه استمر في الكتابة والتأثير حتى بعد وفاته.


اقرأ أيضاً: كيف نتعلم الثبات في المحن؟


أدبيات المحنة

كان من ثمار هذه النظرة للمحنة العمل على توثيقها فخرجت العديد من الكتب التي تناولت الفتن والاضطهادات بسبب التعبير عن الآراء أو نتيجة الانحياز لمواقفهم سياسية أو دينية، فكان من أبرز هذه الكتب كتاب «المحن» لابن أبي الدنيا (ت 281هـ)، وهو من أقدم الكتب حول هذه القضية، ويركز على الجانب الأخلاقي والصبر في مواجهة المحن، وكتاب «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» لابن الجوزي (ت 597هـ)، وقد وثق الكثير من المحن التي تعرّض لها العلماء والخلفاء، وكتاب «تاريخ الخلفاء» لجلال الدين السيوطي (ت 911هـ) وكتاب «الاعتبار» لأسامة بن منقذ (ت 584هـ)، وكتاب «وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان» لابن خلكان (ت 681هـ)، وكتاب «المعيار المعرب والجامع المغرب» للونشريسي (ت 914هـ)، وغير ذلك من الكتب التي سلطت الضوء على الأزمات الفكرية والسياسية التي واجهها المصلحون والعلماء.

المحنة والوعي

لا خلاف إذن على أن المحنة رديف للإيمان، وأن المؤمن لا بد وأن يمتحن، غير أن المحنة المرتبطة بالدعوة أو الفاعلية قد تدفع صاحبها إلى إعادة تقييم مواقفه وأفكاره، وقد تؤدي إلى التراجع أو الإصرار على الاستمرار أو حتى تبني رؤى جديدة تختلف عما كان عليه قبل المحنة، فضلاً عن إعادة ترتيب أولوياته وتقييم المسارات، وهي أمور كلها تساهم في تشكيل الوعي الخاص بالواقع وكيفية التعاطي معه؛ وعليه، فإن المحنة يمكن أن تكون فرصة كما يمكن أن تكون انتكاسة، وهو ما يتوقف على طبيعة نظرة صاحب المحنة لمحنته.

فالمحنة إذن محطة مهمة، بل وخطيرة أيضاً في تشكيل الوعي، سواء كان الوعي بالذات والتعرف على نقاط القوة والضعف وطبيعة الأخطاء ومصدرها وكيفية تداركها، وكذلك الوعي بالمجتمع وما يعانيه هذا المجتمع من مشكلات اقتصادية أو سياسية أو حتى توعوية ومدى تفاعله مع القضايا الإسلامية فضلاً عن علاقة المجتمع بالدين ورجال الدعوة.

وهي محطة مهمة أيضاً في طريق الوعي بالمناوئين للإسلاميين من حيث قوتهم وأساليبهم والطرق المثلى في التعاطي معها بأقل الخسائر الممكنة، الأمر الذي يحقق ما يسمى بالوعي بالتجديد حيث البحث عن أساليب جديدة للعمل الدعوي والسياسي تتناسب مع طبيعة المرحلة.

بين الإيجابية والسلبية

والحقيقة أنه وعلى الرغم من إدراك حتمية وقوع المحن للمؤمنين، فإن أثرها في تشكيل الوعي يختلف من شخص لآخر أو من جماعة لأخرى لنخلص بأنها يمكن أن تكون ذات أثرين مختلفين أحدهما إيجابي والآخر سلبي.

فعلى المستوى الإيجابي، يمكن أن تكون المحنة اختباراً للإيمان والصدق، ودافعاً للإبداع والمراجعة، وتعديل الأهداف والمواقف، وترتيب الأولويات، وتحديد الإستراتيجيات، وتطوير الخطاب، وتجديد الأساليب والوسائل، بما يتناسب مع الواقع الجديد، كما أنها يمكن أن تكون مساهمة في وجود شخصيات مؤثرة، أو للتمييز بين الأحباب والمناوئين أو فرصة لصقل التجارب ولزيادة التماسك الداخلي ولامتلاك القدرة على استيعاب المتغيرات السياسية والاجتماعية.


اقرأ أيضاً: حياة المسلم.. بين المحن وسوء التدبير


وأما على المستوى السلبي، فإنها يمكن أن توقع البعض في الانغماس في المظلومية أو تبرير استبداد بعض القيادات أو الاستسلام لحالة من الخوف والقلق الدائمين أو تلبس البعض لثوب البراجماتية، أو تخلي البعض عن المبادئ تحت ضغط الواقع، أو تبني البعض لأفكار التطرف والإرهاب أو شعور البعض بالإحباط واليأس والانهزامية، أو تنامي رغبة البعض للانكفاء والعزلة، فضلاً عن أنها يمكن أن تمثل لدى البعض استنزافاً جسدياً ونفسياً ومصدراً لفقدان الثقة، وهي كلها عوامل كفيلة بأن تشوه العمل الدعوي والإسلامي وتجذر للانقسامات داخل الصف الإسلامي مما يخرج الإسلاميين من دائرة الفعل الإيجابي أو النافع.

النظرة للمستقبل

في ظل قراءة ماضي وواقع الإسلاميين، لا يمكن الجزم بالقول: إن أثر المحن عليهم كان شراً محضاً أو خيراً محضاً، إذ يشير الواقع وبقوة إلى أنها أفرزت مدارس واتجاهات متباينة كان منها ما هو قادر على التكيف، وإدراك ما يجب أن يكون وطرح أفكار قادرة على استيعاب المستجدات، ومنها بكل أسف ما قدم صورة مشوهة كانت خير داعم للمناوئين للإسلام ذاته وليست فقط للحركات الدعوية.

وهنا تبرز أهمية أن يمعن الإسلاميون النظر وبشكل دائم إلى التاريخ الإسلامي الذي هو خير شاهد على أن المحنة كانت دائمًا بداية لنهضة جديدة إذا تم التعامل معها بوعي وإدراك.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة