محطات إيمانية في طريق التربية..
أجرٌ بغير حساب!
                    وقفتْ أمام الجميع صامدة ثابتة تردد الحمد لربها بصدق وإيمان، وتدعوه بصبر
ويقين أن يرحم فلذات أكبادها الذين سُلبوا منها فجأة جملة واحدة في إحدى الغارات
الغاشمة التي لا تفرق بين صغير وكبير ولا رجل وامرأة، ولا بين طفل ورضيع، إذ تسرع
فيهم آلة العدوان البغيضة قتلاً وإبادة دون نظر أو رويّة! ليكون القاضي هو الشاهد
والجلاد في آن واحد، فما أسوأ الظلم! وما أقسى ظلماته!
من رأى هذه الأمّ وهي تحمد الله تعالى، وسمعها وهي تردد الحمد وتعيده مرات؛
أيقن أن الله تعالى يختار من عباده أناساً يرفعهم بالابتلاء، ويرزقهم الصبر عليه
ليعظم لهم الجزاء، ويملأ قلوبهم بالرضا والاحتساب؛ ليوفيهم أجرهم بغير حساب، كما
وعدهم سبحانه في قوله: (إِنَّمَا يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر: 10).
الجزاء الأوفى للصابرين
بيّن النبي صلى الله عليه وسلم الجزاء العظيم للصابرين والصابرات فقال: «إذا
مات ولدُ العبدِ قال اللهُ تعالى لملائكتِه: قبضتُم ولدَ عبدي؟ فيقولون: نعم
فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجَع، فيقولُ اللهُ تعالى: ابنوا لعبدي
بيتًا في الجنَّةِ، وسمُّوه بيتَ الحمدِ» (رواه الترمذي).
إن الصبر والثبات ليسا بالأمر السهل أو الهين على النفوس وقد فُطرت على حب
الدعة والراحة، وجُبلت على الرغبة في العيش في الترف والنعيم، إلا أن الله تعالى
رحيم بعباده؛ لا يبتليهم بما لا يطيقون، ولا يكلفهم ما لا يستطيعون، وهو عز وجل
حكيم في أقداره عليم بما يكون، ولا يُقدِّر لهم إلا ما فيه خيرهم وإن بَدا غير ذلك
للناظرين، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: «عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ
أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ
سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ
خَيْرًا له» (رواه مسلم).
رتَّب الله تعالى الجزاء الأوفى لمن ابتلي فصبر، فقد اقتضت حكمته تعالى أن
تكون الدنيا دار ابتلاء وتمحيص وفتنة، يجري هذا على الناس جميعاً، قال تعالى: (وَنَبْلُوكُم
بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء: 35)، فابتلى
أنبياءه ورسله وهم أحب الناس إليه، وابتلى الصحابة رضي الله عنهم وهم خير القرون،
وأكد ذلك فقال: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ
الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ
وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ {155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ
إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ {156} أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ
صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة)، وفي الحديث: «ما يُصِيبُ المُؤْمِنَ مِن وصَبٍ، ولا
نَصَبٍ، ولا سَقَمٍ، ولا حَزَنٍ، حتَّى الهَمّ يُهَمُّهُ؛ إلَّا كُفِّرَ به مِن
سَيِّئاتِهِ» (رواه مسلم).
الأسوة الحسنة في الصبر
لقد قدم لنا النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه أعظم مثال في الصبر في كل
أحواله، فكان صابراً صبراً يليق بمكانته ومنزلته عند الله، فمارس عبادة الصبر بكل
أنواعه، فكان له الجزاء الأوفى عند الله عز وجل والدرجة العالية في الجنة، صبَر
على طاعة الله عز وجل، فكان كما ذكرت عائشة رضي الله عنها «كانَ يَقُومُ مِنَ
اللَّيْلِ حتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ» (رواه البخاري)، وصبر عن معصية الله فلم
يرتكب إثماً ولم يفعل ما يغضب الله عز وجل.
أما صبره على أقدار الله، فقد علمنا ذلك من خلال سيرته المباركة، فقد تعرض
لصنوف الابتلاء منذ صغره؛ فوُلد يتيماً وتذوق ألم اليُتم، وماتت أمه وهو طفل فحُرم
دفء الأمومة، ثم مات جده عبدالمطلب الذي كان يكفله، ثم عمه أبو طالب الذي كان
يحميه من أذى قومه ويدافع عنه، وماتت زوجته خديجة رضي الله عنها التي كانت تؤازره
في دعوته وتشاطره همه وأحزانه. 
وابتلي بفقد أولاده فماتوا جميعاً في حياته إلا فاطمة رضي الله عنها؛ فمات
القاسم، وعبدالله، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وإبراهيم، وماتت زوجته زينب بنت خزيمة
في حياته أيضاً، وماتت زوجة عمه فاطمة بنت أسد التي كانت له أمًّا بعد أمه، ومات
عمه حمزة أسد الله، ومع كل هذه المصائب كان النبي صلى الله عليه وسلم صابراً،
يقابل كل هذه المصائب بقلب راضٍ محتسب.
أما في مقام الدعوة وتبليغ الرسالة، فقد صبر النبي صلى الله عليه وسلم على
تكذيب قومه له، ولم ييأس من دعوتهم وهدايتهم، وقد حوصر في شِعب أبي طالب 3 سنين
فما جزع، وأوذي من أقرب الناس إليه فما وهن.
وذاق أصحابه صنوف التعذيب أمام عينيه فكان يدعوهم إلى الصبر؛ «صبرا آل ياسر
فإن موعدكم الجنة»، وتآمر المشركون عليه وأخرجوه من بلده مكة فصبر. 
واستمر في سلسلة من الابتلاءات الشديدة المتتابعة؛ فاستقبل كل ذلك بصبر
وثبات دون يأس أو قنوط، بل كان يدعو أصحابه إلى الصبر فيقول لهم: «واللَّهِ
لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى
حَضْرَمَوْتَ، لا يَخافُ إلَّا اللَّهَ، والذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ
تَسْتَعْجِلُونَ» (رواه البخاري)، ويبشرهم قائلاً: «لَيَبْلُغَنَّ هذا الأمرُ ما
بلَغَ اللَّيلُ والنَّهارُ، ولا يَترُكُ اللهُ بَيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلَّا
أَدخَلَه اللهُ هذا الدِّينَ، بعِزِّ عَزيزٍ أو بِذُلِّ ذَليلٍ؛ عِزًّا يُعِزُّ
اللهُ به الإسلامَ، وذُلًّا يُذِلُّ اللهُ به الكُفرَ» (رواه أحمد).
بُشريات وأعطيات للصابرين والصابرات
لقد ذكر الله سبحانه الصبر في القرآن في 90 موضعاً، فأمر به، وأخبر عن
مضاعفة أجر الصابرين، وعلق الفلاح عليه، وذكر أنه بالصبر واليقين تُنال الإمامة في
الدين، وجعل الصبر والتقوى جُنة عظيمة من كيد العدو ومكره وعلق النصر بهما، ورتب
المغفرة والأجر الكبير على الصبر والعمل الصالح، وجعله سبب محبته ومعيته ونصره وعونه
وحسن جزائه. (انظر عدة الصابرين، ابن القيم).
كما بشر النبي صلى الله عليه وسلم أهل الصبر فقال: «إنَّ عِظم الجزاء مع
عظم البلاء، وإنَّ الله عز وجل إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط
فله السخط» (رواه الترمذي).
وبشرهم بذهاب خطاياهم وتكفير سيئاتهم فقال: «لا يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ أو
المؤمنةِ في نفسهِ ومالهِ وولدهِ حتى يلقَى اللهَ وما عليهِ من خطيئةٍ» (رواه الترمذي)،
وقال: «ما مِن مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فيَقولُ ما أمَرَهُ اللَّهُ: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ) (البقرة: 156)، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي في مُصِيبَتِي، وأَخْلِفْ
لي خَيْرًا مِنْها، إلَّا أخْلَفَ اللَّهُ له خَيْرًا مِنْها» (رواه مسلم).
ومع كل هذا، فقد دعانا النبي صلى الله عليه وسلم إلى سؤال الله العافية
فقال: «سلوا اللَّهَ العفوَ والعافيةَ فإنَّ أحدًا لم يُعطَ بعدَ اليقينِ خيرًا
منَ العافيةِ» (رواه الترمذي).