أخلاقيات الصدق في زمن الشائعات الرقمية.. كيف نواجه الكذب الممنهج؟

يشكل الصدق قيمة مركزية ومحورية في بناء المجتمعات الإنسانية الحضارية، فهو الأساس الذي تبنى عليه مبادئ الثقة بين الأفراد، وبه تنهض الأمم، وتستقيم العلاقات الداخلية داخل أي مجتمع.

وها قد انتشرت وسائل التواصل الاجتماعي، حيث انتشرت الشائعات، وأصبحت تستخدم لتشكيل وعي الشعوب بصورة زائفة، وإدارة الرأي العام وتوجيهه، وتزييف الواقع.

وهنا يبرز سؤال أخلاقي: كيف يمكن الحفاظ على قيمة كالصدق في عالم تسيطر عليه الدعاية الممنهجَة عبر المؤسسات الإعلامية الرسمية، وفي وقت يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بتحري الصدق في كل وقت وحين حيث يقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119)؟

الصدق قيمة إنسانية

خلق الله عز وجل الإنسان ووضع له قوانين وجب عليها الالتزام بها، منها مجموعة القيم الأخلاقية كالصدق في القول والفعل؛ ولذلك فنجد أنه لا يختلف أحد مهما تدنت أخلاقه على تقدير قيمة الصدق، حتى أولئك الذين يزيفون وعي الناس ويكذبون عليهم لا يعلنون للناس أنهم كاذبون، ولا تجدهم يتفاخرون أنهم من الكاذبين الذين يتقنون الكذب ويستخدمونه في حياتهم اليومية، بل نجدهم يدعون دومًا الصدق، ويتشدقون به، بل ويتهمون الآخرين بالكذب من باب التدليس وإمعانًا في كذبهم وزيفهم.

وقد اعتبره أرسطو أحد أركان الفضائل العملية، حيث قال: الصدق في القول والفعل هو أساس الحياة الفاضلة.

ويرى كانط أن الكذب حتى لو كان لمصلحة متوهمة، يدمر الأساس الأخلاقي للوجود الإنساني، لأنه ينقض مبدأ المعاملة بالمثل.

بينما يقدم النبي صلى الله عليه وسلم الصدق في ثوب الطاعة بالغة الأهمية فيقول صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب، فإنه يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذابًا» (رواه البخاري، ومسلم).

الشائعات الرسمية وأزمات الثقة

تواجه المجتمعات الحديثة أزمة مستحدثة تخص هذا العصر بكل آلياته المعقدة ووسائلها المتعددة، وهي أزمة «الشائعة الرسمية»، حيث تتحول مؤسسات الدولة أو الإعلام الموجه إلى مصدر لبث أنصاف الحقائق أو الأكاذيب الكاملة والمنمقة التي يصعب اكتشاف أغوارها، وذلك بهدف السيطرة على وعي الناس.

وقد أشار الباحث الأمريكي نعوم تشومسكي إلى هذا الوضع الذي صار ظاهرة عالمية معتمدة وشبه متفق عليها كمدرسة من مدارس الإدارة خاصة السياسية والاجتماعية لبعض من لا يؤمنون إيمانًا كاملًا برب العالمين في كتابه «تصنيع القبول»، وبيّن فيه كيفية استخدام أدوات الإعلام لتسويق روايات رسمية تقدم كحقائق، بينما هي في حقيقتها بناء مصطنع.

وقد عرض القرآن الكريم لتلك الصور وبيّن حقيقة ما يفعلون فقال فيهم: (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 42)، فهذا هو خلط الحق بالباطل الذي حذر منه الله عز وجل، وتلك هي حقيقة الشائعة ولبها.

البنية النفسية للشائعة الرسمية

البعض خاصة في عالم الإعلام والرسائل الموجهة يعتمد قول جوزيف جوبلز: «اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس»، وتكرار الكذب في الحدث الواحد بأكثر من صورة وفي أكثر من مصدر صحفي أو إعلامي، مع اختلاف تلك المصادر بين الصحف والوسائل الإعلامية المسموعة والمرئية يكون مدعاة لتصديق الرسالة مهما كانت تحمل من مبالغة.

فمن الناحية النفسية، تعتمد الشائعات تلك الوسيلة، وهي وسيلة ناجحة بصورة كبيرة في خداع الجماهير والتدليس عليهم خاصة أن تلك الجماهير لا يهمها الحقيقة المطلقة ولا يبحثون عنها، بقدر ما يبحثون عما يتوافق مع مخاوفهم ورغباتهم.

كما قال غوستاف لوبون في كتابه «سيكولوجية الجماهير»: «إن الجماهير لا تبحث عن الحقيقة المجردة، وإنما يبحثون عما يتناغم مع مخاوفها ورغباتها».

وهو ما تستغله المؤسسات وأيضًا الحكومات في بث الشائعات، بينما في الإسلام يظهر مبدأ عظيم رسخه النبي صلى الله عليه وسلم في أمته حيث يقول عليه الصلاة والسلام: «كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع» (رواه مسلم)؛ هنا يحذر من التسليم المطلق والأعمى لكل ما يسمعه الفرد المسلم دون تحقق واستبانة للمعلومة ومصدرها.

أثر الشائعات الرسمية على القيم الاجتماعية

لا شيء يضمن استقرار مجموعة القيم الاجتماعية الأساسية داخل أي مجتمع إلا بضمان وجود الثقة بين الشعوب والأنظمة، وبين الشعوب ووسائل الإعلام الرسمية، وبين الشعوب وبعضها بعضاً، وبغير الصدق تتآكل الثقة والتضامن في المجتمع، ويفقد الناس القدرة على التمييز بين الحقيقة والزيف.

يقول ابن خلدون في «مقدمته»: «الكذب في الأخبار آفة عظيمة، وهو ما يؤدي إلى فساد العمران»، ويقول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (غافر: 28)؛ والآية الكريمة تجعل الكذب عائقًا أمام الهداية للفرد والمجتمع على حد سواء إذا استسلم الجميع لتزييف الوعي دون إبداء مقاومة كافية لوقفه والقضاء عليه.

الإعلام الجديد وكسر احتكار الحقيقة

ومن المبشرات رغم انتشار ظاهرة الشائعات ظهور الإعلام البديل، وهو ما يسمى بالإعلام الرقمي، وبظهوره انحسرت الشائعات وفقدت جزءًا مهمًا من قدرتها لأن الأفراد والشهود صاروا قادرين على نشر روايات أخرى غير تلك الروايات الرسمية.

ومن أمثلة ذلك ما دار في حرب «طوفان الأقصى»، حيث استطاع الفلسطينيون نشر رواية أخرى غير الرواية الصهيونية، واستطاعوا كذلك توصيل الرواية الفلسطينية لكافة شعوب العالم التي تنتفض اليوم من أجل فلسطين وغزة.

لكن عدوى الكذب وصناعة الشائعات انتقلت بدورها إلى الإعلام البديل لتأخذ مساحة وإن كانت ليست بحجم الشائعات الرسمية، وهنا يصبح التمسك بالصدق معيارًا لا يخص الحاكم فقط، بل كل فرد مسؤول عن نشر المعلومة وإن كان فردًا مستقلًا لا يملك إلا صفحته الشخصية، تنفيذًا لأمر الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (الحجرات: 6)؛ وهي قاعدة قرآنية تصلح لأن تكون دستورًا إعلاميًا يفرض على المواطن أن يكون مدققًا في المعلومة الرقمية قبل نشرها.

الصدق كفعل مقاومة

في زمن الشائعات الرسمية وغير الرسمية يتحول تحري الصدق إلى شكل من أشكال مقاومة الباطل، أو شكل من أشكال المقاومة الأخلاقية، وتحدي الشيطان، وإعلان الحرب على الفساد القيمي، ومقاومة أي نوع من أنواع الطغيان وهو هنا متمثل في الكذب والأخذ من سمعة الناس خاصة الأبرياء منهم وأصحاب الحق، وهنا يجب أن تتضافر جهود المسلمين للخلاص من هذه الظاهرة التي قد تصنع شقاقًا مجتمعيًا وحقدًا لا يمكن تداركه إلا بإيقافه بكافة السبل المتاحة ورفض مجتمعي متكامل.

إعادة بناء أخلاقيات الصدق

لمواجهة ظاهرة الشائعات يجب أن تتغير المنظومة الأخلاقية المجتمعية كاملة ليصير فيها الصدق منهجًا للجميع أفرادًا ومجتمعات، وذلك بتوعية الناس لأهمية ذلك الخلق خاصة مع اهتمام النصوص الشرعية به، وربطها بين الصدق كخلق، واختبار الله تعالى لخلقه لتمحيصهم ومعرفة الصادقين والكاذبين منهم؛ فقال تعالى: (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت: 3)، وقال سبحانه: (لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا) (الأحزاب: 8).

إن الصدق لم يعد خيارًا فرديًا في زمن الشائعات الرقمية، بل أصبح شرطًا وجوديًا لاستمرار المجتمعات واستقرارها قبل الذوبان في هذا العالم الغارق في الشبهات والشهوات.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة