أزمة الصهيونية

«أزمة
الصهيونية» اصطلاح نستخدمه للإشارة إلى المشكلات التي تواجهها الصهيونية كعقيدة
تستند إليها الدولة الصهيونية، وتدَّعي لنفسها الشرعية على أساسها، وتؤسس علاقتها
بيهود العالم والعالم الغربي من خلالها.
ومن المعروف أن
المشروع الصهيوني قد حقق نجاحات كثيرة لا شك فيها، مثل احتلال الأرض الفلسطينية
بالقوة وطرد أعداد كبيرة من الفلسطينيين من ديارهم ووضع الباقين منهم تحت قبضته
الإدارية والعسكرية الحديدية، كما نجح المشروع الصهيوني في نقل كتلة بشرية ضخمة
استوطنت في هذه البقعة وأسست بنية تحتية زراعية صناعية عسكرية وانتصرت في عدة حروب
ضد جيوش الدول العربية، ويحصل المشروع الصهيوني على الدعم غير المشروط من التشكيل
الحضاري والسياسي الغربي، وبخاصة من الولايات المتحدة، التي تقف في الوقت الحاضر
على رأس هذا التشكيل.
ولكن رغم كل هذه
الإنجازات المهمة، التي لا يمكن التهوين من شأنها، يردد أصحاب المشروع الصهيوني
أنفسهم أن مشروعهم يواجه أزمة حقيقية، حتى إن عبارة «أزمة الصهيونية» أصبحت
مصطلحاً أساسياً في الخطاب السياسي، ولا تخلو صحيفة «إسرائيلية» من عبارات مثل
«صهيونية بدون روح صهيونية» و«انحسار الصهيونية».
وتُناقَش الأزمة
الصهيونية بشكل شبه مستمر في المؤتمرات الصهيونية الواحد تلو الآخر، ونحن نذهب إلى
أن أسباب هذه الأزمة بنيوية، أي لصيقة ببنية الاستيطان الصهيوني نفسه، ولذا بدأت
الأزمة مع بداية هذا الاستيطان عام 1882م، ولم يحلها إنشاء الدولة بل زادها
تفاقماً وإن ظلت في حالة كمون إلى أن تبدَّت بشكل واضح عام 1967م، وزادت حدتها مع
حرب الاستنزاف وحرب 1973م، ووصلت إلى لحظة حرجة مع هزيمة الدولة الصهيونية في
لبنان ثم مع اندلاع الانتفاضة.
وعناصر الأزمة
كثيرة، من أهمها: قضية الهوية اليهودية (من هو اليهودي؟)، وتطبيع الشخصية
اليهودية، ومشكلة اليهود الشرقيين، وهوية الدولة اليهودية، والأزمة السكانية
والاستيطانية، وتحجُّر الثقافة السياسية الصهيونية، وتصاعُد معدلات العولمة
والأمركة في المستوطن الصهيوني.
وعناصر الأزمة
الصهيونية متشابكة (كما سيتضح لنا أثناء التعرض لجوانبها كلٌّ على حدة)، فمشكلة
الهوية والصراع بين الدينيين والعلمانيين مرتبطة بالأزمة السكانية (الديموغرافية)،
وكلاهما مرتبط بأزمة الهجرة والاستيطان وبقضية تطبيع الشخصية اليهودية، كما أن
أزمة صهاينة الداخل مرتبطة من بعض النواحي بأزمة صهاينة ويهود الخارج، وتتبلور
العناصر في قضية اليهود الشرقيين (من السفارد واليهود العرب ويهود البلاد
الإسلامية)، ورغم علمنا بهذا التشابك، فإننا فصلنا العناصر بعضها عن بعض كضرورة
تحليلية.
وكل القضايا
السابقة تشكل تحدياً للصهيونية وتقوض شرعيتها أمام يهود العالم ويهود المستوطن
الصهيوني والدول الغربية الراعية للمشروع الصهيوني (وهذه هي الشرعية الصهيونية
مقابل شرعية الوجود، أي شرعية النظام الاستيطاني أمام السكان الأصليين، أي
الفلسطينيين).
وقد أدَّت
الأزمة إلى انفراط العقد الاجتماعي الصهيوني أو على الأقل تآكله، فقد كان هناك
اتفاق على بعض المقولات الأساسية، مثل أن اليهود شعب واحد (يضم الدينيين
واللادينيين والإشكناز والسفارد.. وغيرهم)، وهو شعب يطمح للعودة إلى أرضه
للاستيطان فيها، وأن الصهيونية ستنهي حالة المنفى وستقوم بتطبيع اليهود، لقد فشلت
الصهيونية في كل هذا، فاليهودي (هذا المكوِّن الأساسي لهذا الشعب اليهودي) لم
يعرَّف بطريقة ترضي كل الأطراف، وهو شعب يرفض العودة لوطنه القومي، الأمر الذي
يخلق أزمة سكانية استيطانية، ولهذا، لم يَعُد هناك اتفاق على المكونات الأساسية
للصهيونية وأهدافها المبدئية، فالرؤية ليس لها ما يساندها في الواقع، والواقع صلب
لا يود أن يخضع للرؤية.
وقد ترجم هذا
التآكل نفسه إلى عدم اكتراث بالمشروع الصهيوني الذي ترجم نفسه بدوره إلى عدم
الإيمان بالقيم الصهيونية «الريادية» المبنية على التقشف وتأجيل الإشباع، وبدلاً
من ذلك، ظهر السعار الاستهلاكي والنزوع نحو الأمركة والعولمة والخصخصة، وهي حالة
لا تصيب الصهاينة وحدهم وإنما تصيب أيَّ مجتمع يفتقر إلى الاتجاه ولا يحل مشكلة
المعنى، ولكن رغم كل هذا التآكل يظل هناك إجماع صهيوني لم يتآكل وهو رفض الاعتراف
بالفلسطينيين وحقهم في هذه الأرض التي تم اغتصابها.
ولكن قبل أن
نعرض لعناصر الأزمة الصهيونية المختلفة يجب أن نشير إلى أن بوسع المجتمعات
الإنسانية أن تعيش في حالة أزمة مستمرة لعشرات السنين دون أن «تنهار من الداخل»،
إن لم تُوجَّه لها ضربة من الخارج، والتجمع الصهيوني ليس استثناءً من هذه القاعدة،
وخصوصاً أن كميات المساعدات التي تصب فيه من الولايات المتحدة تزيد عن ثمانية
بلايين دولار لمجموع عدد السكان الذي يبلغ عددهم حوالي أربعة ملايين، الأمر الذي
يجعل التجمُّع الإسرائيلي (الاستيطاني الوظيفي) من أكثر المجتمعات تلقياً
للمساعدات الخارجية بالنسبة لعدد السكان، فالتجمُّع الصهيوني لا يحوي مكونات بقائه
واستمراره داخله، فهو يستمدها من دولة عظمى تكفله وترعاه.
ومن الواضح أن «إسرائيل»
مدركة تماماً لأبعاد أزمتها، وأنه لا حل لها داخل إطار ما هو قائم، وقد أدَّى هذا
إلى استقطاب شديد، فطُرح حلاّن؛ الأول: الصهيونية الحلولية العضوية، ويتسم
بالصلابة، والثاني: صهيونية عصر ما بعد الحداثة، ويتسم بالسيولة.
____________________
المصدر: كتاب
موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية.