أسباب النصر في الهدي القرآني

د. مي سمير

10 مارس 2025

507

في ظلمة الانكسار ووطأة الهزائم والضعف الذي يحيق بالمسلمين منذ قرون، يصبح البحث عن أسباب النصر وعوامل النهوض أمراً لا مفر منه، وبينما سعت ولا تزال كثير من الدول إلى الأخذ بالأسباب (المادية) للنصر على الأصعدة العسكرية والاقتصادية والسياسية، ينصرف كثيرون عن الأخذ بالأسباب الإيمانية والروحانية التي تصنع في داخل كل فرد "عقيدة" النصر ولا تقع في فخ غواية الماديات مع تأصل "الهزيمة النفسية" في الوجدان الجمعي للأمة.

وهذا السعي المحموم نحو تكديس أسباب "القوة" ودعائم "النفوذ" يرجع بالأساس إلى غياب الفهم المتعمق لمعنى النصر والتمييز بين النصر الحقيقي والزائف، إذ عززت المادية الغربية من تهميش الروحانيات والإيمان وإخراج الدين من دوائر السياسة وفضاء الدولة والمجتمع، وهو ما جرد الأمة الإسلامية من سلاحها الروحاني وزادها الديني الذي هو ملاذ أمرها وحصنها الحصين، وهو ما يتطلب فهما لمعنى النصر الحقيقي في الهدي القرآني أولاً، ثم السعي لتحصيل أسباب وأركان ذلك النصر في ضوء ذلك الهدي الرباني.

كيف يُعرّف القرآن الكريم النصر؟

وردت كلمة النصر بأوزان مختلفة في القرآن الكريم وتكررت ما يزيد عن الستين مرة، حيث سعت جل آيات النصر إلى تسليط الضوء على الصلة الحتمية بين الإيمان والنصر، ورهنت تحقيق المؤمنين للانتصار بمدى رسوخ يقينهم بنصر الله، حتى وإن كانت الاعتبارات الدنيوية والحسابات المادية راجحة في جانب الأعداء، وبذلك يصبح السعي نحو النصر في ظروف لا توحي بامتلاك أسبابه المنطقية نوعاً من الابتلاء الإلهي لعباده المؤمنين، وهذا الابتلاء الرباني قد قدم وعداً قطعياً بتحقق النصر لمن يتجاوزه وينجح فيه، وهذا ما يقودنا إلى فهم المبادئ الإسلامية التي قاربت مفهوم النصر وفصلت فيه.


القواعد القرآنية الحاكمة لتحقيق النصر

وبمتابعة آيات النصر في القرآن الكريم، نجد بأن الهدي الإلهي قد وضع مبادئ أساسية للرؤية الإسلامية عن النصر، وهي بمثابة القواعد الحاكمة لأي مسلم في حياته الخاصة والعامة على السواء، وأهم تلك القواعد:

أن النصر منحة من الله بغض النظر عن العوامل البشرية أو الأسباب الدنيوية:

(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال: 10)، (إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ۖ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران: 160)، (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 40)، (يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم: 5).

أن الإيمان بالنصر جزء لا يتجزأ من الإيمان بالله:
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة: 214)، (مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ) (الحج: 15).

- أن النصر غير مرهون بالعدد أو الحسابات الكمية:
(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (آل عمران: 123)، (إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ) (الأنفال: 65)، (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ۖ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ۚ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ) (آل عمران: 13).

- أن النصر محسوم للمؤمنين إذا ما أخذوا بأسباب النصر على مراد الله:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7)، (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم: 47)، إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر: 51).

اقرأ أيضاَ: بشارات النصر والتمكين في كتاب الله المبين (1 - 2)

أركان وشروط النصر 

وبعد رسوخ الإيمان بمبادئ النصر التي أقرها الإسلام وتحقق يقين الأمة المسلمة بتلك المبادئ، يصبح لزاماً السعي لامتلاك أسباب النصر وفي مقدمتها كما أسلفنا الإيمان الذي هو ركن النصر وركيزة الفلاح، ليس فقط في أرض المعركة وإنما في كافة مناحي الحياة، وبامتلاك زمام تلك الأسباب يتحقق الانتصار بكافة أشكاله سواء على النفس أو الشيطان أو الأعداء، ومن أهم أسباب النصر التي وردت في القرآن الكريم:

- الإيمان:

كما أسلفنا فإن "اليقين" بنصر الله للمؤمنين هو دعامة تحقق النصر، وهو من تلك الناحية يوفر للمؤمنين "الصلابة النفسية" اللازمة لخوض المعارك، فالعامل النفسي الروحاني المتفائل بالنصر والواثق بالله لا بديل عنه ليحقق الإنسان أي نصر يشاء على الآخرين، وهو ما يفسر نجاح المؤمنين في صدر الإسلام في تحقيق انتصارات قوية بعدد قليل وعدة ضئيلة على جحافل جيوش الكافرين، وتمكن السابقين الأولين من الصحابة والتابعين من نشر رسالة الإسلام من مكة إلى العالم بأسره، هذا الانتشار والانتصار نبع من يقين وإيمان ما كان يمكن تحقيق أي إنجاز من دونه، وهو ما قد يفسر ما آلت إليه أحوال المسلمين اليوم من "ضعف" و"هوان" رغم كثرة عددهم وامتلاكهم للثروات والدعائم المادية للنصر.

- الصبر:

هذا الإيمان واليقين يحتاج وقت التطبيق العملي في أرض المعركة – سواء المعارك المادية أو المعنوية – إلى ثاني ركن من أركان النصر في الرؤية القرآنية، ألا وهو الصبر، إذ يجب أن يقود الإيمان إلى صبر ومثابرة وقت الشدائد التي قد تضعف فيها العزائم وتتراخى فيها الهمم، وهو ما تجلى فيما أورده القرآن عن قصة جالوت وطالوت التي تعرض فيها بنو إسرائيل لاختبار تلو الآخر لعزيمتهم وإيمانهم فلم يصمد منهم حتى الشوط الأخير إلا القليل، (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 249)، كذلك فإن الصبر قد ورد بمعنى طلب أسباب النصر وإن كانت غائبة واليقين بنصر الله وإن بدا بعيداً، حتى إذا ما استمسك المؤمن باعتقاده الراسخ في النصر جاءته البشرى الإلهية مكافأة له على الصبر: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ) (الأنعام: 34)، وهو ما يستلزم تغليب حسن الظن بالله وقت الشدائد والابتلاء وعدم اليأس من رحمته أو نصره.

- الإعداد: 

وإذا ما نجح المؤمن في ترسيخ اليقين بالله والاستمساك بالصبر وحسن الظن باقتراب النصر، فإن عليه أن يطلب أسباب النصر المادية والأخذ بها قدر استطاعته: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) (الأنفال: 60)، فعلى الرغم من ترجيح الهدي القرآني للإيمان والجوانب الروحانية والنفسانية للنصر، فإنه قد حض على الاستعداد المادي وامتلاك أسبابه طالما في استطاعة المسلمين ذلك.

وهذا الإعداد قد انطلق من فكرة "الردع" بما يؤكد أهمية الجانب النفساني للنصر أو الهزيمة بغض النظر عن العتاد والكم، وهو ما يتسق مع تأكيد القرآن في غير موضع على أن "العدد" الحسابي غير ذي قيمة في أرض المعركة وحسابات النصر الإسلامية: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا) (الأنفال: 44)، وعلى العكس من ذلك فقد شدد القرآن على عدم الاغترار بالكثرة التي لا يعول عليها في النصر إذا لم يدعمها الإيمان: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ) (التوبة: 25).

اقرأ أيضا: بشارات النصر والتمكين في كتاب الله المبين (2-2)

وهذا المبدأ يفسر فكرة "المقاومة" التي نشأت بالأساس على يد الفئات المستضعفة والمحتلة الساعية لمحاربة ومجابهة أمم متقدمة وجيوش مدججة بالمال والسلاح، فتلك القلة المسلحة المستعصمة بالإيمان بقضية عادلة ويقينهم بقدرتهم في مواجهة الأعداء هو الذي يفسر نجاح المقاومة في تكبيد المحتلين عبر العصور خسائر كبيرة وقدرتهم على تحرير أوطانهم.

واليوم، ونحن في رمضان، أحوج ما نكون إلى فهم حقيقة النصر كما علمنا إياها ديننا الحنيف وهدينا القرآني، عبر الانتصار على الضعف المتأصل في النفوس أولاً وترسيخ الصلابة النفسية واليقين الإيماني ثانياً، بدلاً من البحث عن العدة والعتاد أو حتى اجترار التعاطف الدولي مع قضايانا، هذا اليقين يحتاج إلى تولية وجوهنا صوب قبلتنا القرآنية واستخلاص ما بها من دروس وعبر ومبادئ بديلاً عن التهافت على أسباب زائفة للنصر يزينها لنا "الآخر" بغرض تعزيز ابتعادنا عن هويتنا ودعائمنا وإبقائنا في سبات من الغفلة والضعف.


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة