أسس المنهج النبوي في التربية الوالدية (1)


مما لا شك فيه أن التربية الوالدية تعد إحدى أهم الركائز في بناء المجتمعات، وهي الأساس الذي يُغرس فيه القيم والمبادئ التي تشكل شخصية الأجيال القادمة، وعلى رأس قائمة المناهج التربوية التي أثبتت فعاليتها عبر العصور، يبرز المنهج النبوي في التربية، الذي قدّم نموذجًا متكاملًا يجمع بين الرحمة والحزم، وبين التوجيه والممارسة، وبين الحب والتنشئة السليمة.

فلقد رسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم خارطة طريق واضحة للآباء والأمهات، تعكس فطرتهم السليمة وتتناسب مع طبيعة الطفل واحتياجاته النفسية والعقلية، حيث كان صلى الله عليه وسلّم يربي بالقدوة قبل القول، ويغمر أبناء الأمة بمشاعر العطف والحنان، ويوجههم بالحكمة والموعظة الحسنة، كما عزّز فيهم قيم المسؤولية والاستقلالية؛ ما أسهم في إعداد جيل قادر على حمل الرسالة وبناء الحضارة.

وفي سلسلة مقالات تربوية دعوية، نسلط الضوء على أبرز أسس المنهج النبوي في التربية الوالدية، ونستعرض كيفية تطبيقها في واقعنا المعاصر، لضمان تربية ناجحة تحقق التوازن بين القيم الروحية والممارسات الحياتية، وذلك لأنّ منهج النبيّ المرَبِّي صلى الله عليه وسلّم هو الأشمل والأرقى والأكمل والأنقى بين المناهج العملية التي عرفتها الدنيا عبر العصور.

التربية وبناء الإنسان

تعدّ التربية الرُّكن الركين لبناء شخصية الإنسان، وقد أجمع المربون والمصلحون أنّ من أهم أطواق النجاة للمجتمع بناء الإنسان، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال ملامح تربوية سليمة نافعة، ومن أجل هذا المقصد كان إرسال الأنبياء وبعثة المرسلين، فإنَّ مهمّة الأنبياء والمرسلين بعد دعوة الخلق إلى عبادة الله تعالى وحده تتمثّل في تربية الشعوب وإصلاح البشرية سلوكًا وسمتًا.

ولا شكّ أنّ التربية من أهم الوسائل في الإصلاح العام والخاص، وتربية الأجيال الناشئة على السلوك القويم والطريق المستقيم هو ما ينشدُه المُصلِحُون في كل زمان ومكان، غير أنّه مع تعدّد المشكلات وتنوعها في زماننا، فإنّ عملية التربية باتت من أصعب المهام وأشدّها؛ ما يلزم معه البحث عن المنهج الشامل والقويم في التربية للأبناء والبنات.

والناظر في مناهج التربية القديمة والمعاصرة يرى نورًا يُطلّ على البشـرية بين تلك المناهج التي ربما اعتراها الكثير من أوجه النقص والانحراف، إنّه منهج النبي القدوة، والرسول الأسوة، كما عبّرت آيات القرآن الكريم بقوله سبحانه: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب: 21).

ويتميّز المنهج النبويّ الشريف بأنه المنهج التطبيقي والعمليّ للقرآن الكريم المتوافق مع العقل والفطرة والشرع؛ سيّما وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم أشمل وأرقى وأكمل وأنقى وأميز وأوقع سيرة عرفتها الدنيا، وعلى هذا فإنَّ أساس هذا البحث هو الحديث النبويّ الشريف وتطبيقات الرسول صلى الله عليه وسلم العمليّة لملامح ومعالم التربية الناجحة.

ففي هديه صلى الله عليه وسلم زاد للمُرَبِّين ولأوْلياء الأمور من الآباء والأمهات، وتعليم لهم جميعًا؛ إذ المُعلِّم هو مؤدِّب يتحلى بصفات المُرَبِّين العظماء من الحكمة، والرحمة، والرأفة، والحلم، والتدرّج، ومن الطبيعي تلقائياً أن تنتج تلك السمات الاحترام والتقدير والتوقع الحسن والتشجيع والإعجاب والحب غير المشروط والصداقة والتوازن بين المرَبِّي ومن يعمل على تربيته وتقويم سلوكه.

خصائص المنهج النبوي في التربية الوالدية

يتميز المنهج النبوي عن غيره من المناهج بالآتي:

أولاً: عصمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فمع كون رسولنا بشـرًا، لكنه بشـرٌ يوحَى إليه، ولا ينطق عن الهوى، كما أخبرت آيات الكتاب المجيد، قال تعالى: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى {3} إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم)، أما غيره من المُرَبّين فلا عصمة لهم من الزلل أو الخطأ، كما قال المولى عز وجل في كتابه الحكيم: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) (النساء: 82)، فالكلام إذًا عن منهجٍ معصوم، لا ينحرف عن الغاية الربانية ولا عن الهدف السامي في الإصلاح والتغيير.

ثانيًا: معايشته للواقع الإنساني كإنسان وشمولية منهجه، فضلاً عن سهولة تطبيق منهجه صلى الله عليه وسلم في التربية، من خلال:

1- نظرته للإنسان كإنسان: ليس ملكًا فيرتفع به إلى الملائكية، ولا ينزل به إلى مستوى الحيوانية والبهيميّة، ولا يفرض عليه العُزلَة والرهبنة، ولا يرتكس به إلى أحطّ درجات الأخلاق، لكن الاعتدال في النظرة إلى الإنسان سما بهذا المنهج الكريم، ففي الحديث الصحيح حين جاء ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا واللهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لله وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»(1).

2- أن تطبيق هذا المنهج سهل يسير، وقد طُبِّق بين الأعراب الجفاة القُساة، وتحوّلوا -من خلاله- إلى قادة للأمم والشعوب وسادوا به بين جميع الأُمم.

ثالثًا: لأنّ هدْيه صلى الله عليه وسلم هدي تمام الأخلاق: فلقد حدّث النبيّ صلى الله عليه وسلم عن نفسه وبعثته بقوله الجامع المانع: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلاقِ»(2)، فلا بد من استثمار صالح الأخلاق في هديه صلى الله عليه وسلم، والاسترشاد بمنهجه الخُلُقي القويم لتصلح مجتمعاتنا الإسلامية وتستضـيء بنور الهدي النبويّ.

رابعًا: أمر الله تعالى بالاقتداء به: فإنّ اتباعه عبادة، واقتفاء أثره بركة، والاعتناء بتطبيق طريقته في الحياة لفرصة عظيمة لنيل الثواب العميم في الدنيا والآخرة.

ولذا قال الخطيب البغدادي: «يَنْبَغِي لِطَالِبِ الحديث أَنْ يَتَمَيَّزَ فِي عَامَّةِ أُمُورِهِ، بِاسْتِعْمَالِ آثَارِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مَا أَمْكَنَهُ، وَتَوْظِيفِ السُّنَنِ عَلَى نَفْسِهِ»، كما نقل عن إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ قوله: «يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ إِذَا سَمِعَ شَيْئًا مِنْ آدَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ»، وقال سفيان الثوري: «إِنِ اسْتَطَعْتَ، أَلَّا تَحُكَّ رَأْسَكَ إِلَّا بِأَثَرٍ فَافْعَلْ»(3)، فهديه نلتزم به تعبّدًا، ويسير المسلم على خُطَاه تقربًا إلى الله تعالى، ولا يتحقّق ذلك ولا يتوفّر إلا فيه وله صلى الله عليه وسلم.

خامسًا: لتقرير ضرورة الأخذ عنه دون أفكار أو قناعات سابقة: فبعض الناس ربما يأخذ من هديه بهدف بيان صحة القناعات السابقة لديه، أو الصورة الذهنية عن التربية، فيأتي إليه ليأخذ عنه ما يؤكّد فكرته أو توجّهه، وهذا خطأ لا يصح؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم هو الرمز الذي يُؤخَذ عنه، ويستدل به على غيره، وليس العكس(4).

سادسًا: الحاجة إلى النموذج الأمثل لبناء شخصية الإنسان المعاصر: ولا يقوم بهذا الجُهد ولا يحقّق هذا الطموح إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأقواله وحركاته وتصـرفاته وسلوكياته، وذلك من خلال سُنة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتتبع هديه في أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته، وما لذلك من أثر في حياة الدّعاة والمُربِّين، إذ الحفظ وحده لا يكفي؛ فهناك كما قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في فقه السيرة: «ببغاوات كثيرة تردّد ما تسمع دون وعي، ولقد نرى أطفالاً صغاراً يُلقون -بإتقان وتمثيل- خطباً دقيقة لأشهر الساسة والقادة، فلا الأطفال -بما استُحفظوا من كلام الأئمة- أصبحوا رجالاً، ولا الببغاوات تحوّلت بشـرًا.. وقد تجد من يحفظ ويفقه، ويجادل ويغلب، ولكن العلم في نفسه كعروق الذهب في الصخور المهملة، لا يبعث على خير، ولا يزجر عن شر»(5).

هكذا تظهر حاجتنا لمنهج سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم في أمر التربية الوالدية؛ في زمن اختلطت مفاهيم البعض برغبات أعداء الأسرة المسلمة، ومن ثم ينبغي الاهتمام ببيان ذلك المنهج وأسسه العملية، التي تجمع بين تجربة الوحي والتجربة البشـرية.

وهنا يبزغ السؤال: إذا كان هذا هو النبيّ صلى الله عليه وسلم الحبيب بمنهاجه الشريف، فما سمات طريقته في التربية الوالدية؟ هذا ما سنعرفه في مقالنا القادم إن شاء الله.






______________________

(1) صحيح البخاري: كتاب النكاح، بَابُ التَّرْغِيبِ فِي النِّكَاحِ، حديث رقم (5063).

(2) الأدب المفرد: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، أبو عبدالله (ت 256هـ)، تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي، باب حسن الخلق، حديث رقم (273)، ص104، ط3/ 1409هـ= 1989م، دار البشائر الإسلامية- بيروت، وقال عنه المحقق: "صحيح"، وله روايات أخرى عند مالك في الموطأ، وأحمد في المسند، وعند الحاكم في المستدرك على الشيخين، وقال عنه: حديث صحيح على شرط مسلم،

(3) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي الخطيب البغدادي (ت 463هـ)، تحقيق: د، محمود الطحان، ج1، ص142، ط، مكتبة المعارف، الرياض (بدون تاريخ).

(4) ينظر: التربية النبوية: د. محمد بن عبدالله الدويش، ص28، ط1/ 1437هـ، مكتبة الملك فهد الوطنية- الرياض، (بتصرف).  

(5) فقه السيرة: الشيخ محمد الغزالي، ص71، ط1/ 1427هـ، دار القلم- دمشق.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة