أهم معالم السياسة الشرعية في «فتح مكة»

في 20 رمضان 8هـ،
دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً، بعد أن نقضت قريش عهدها معه، فخرج إليهم
النبي صلى الله عليه وسلم في 10 آلاف من أصحابه، بعد أن أعد العدة للفتح(1)،
وفيما يأتي بيان أهم المعالم التي تبين سياسته الرشيدة في إدارة هذا الفتح المبين.
1- وضوح
الهدف:
أثبتت الأحداث
والوقائع بعد الهجرة النبوية الشريفة أن دولة الإسلام التي أقامها النبي صلى الله
عليه وسلم في المدينة المنورة تزداد قوة واتساعاً يوماً بعد يوم، ويأتي هذا على
حساب القوتين الضاربتين في شبه الجزيرة العربية، وهما: قوة اليهود الدينية في
المدينة، وقوة المشركين الوثنية في مكة وما حولها.
وقد هدفت رؤية
النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة إلى القضاء على قوة اليهود؛ لأنهم يرفضون
الإسلام رغم يقينهم أنه الحق، واستمرار وجودهم يعني استمرار الخطر على الإسلام بما
يدبرونه ويكيدونه؛ لذا عقد النبي صلى الله عليه وسلم معهم العهود والمواثيق التي
تضمن الوقاية من شرهم، لكنهم نقضوا هذه العهود، فتخلص منهم النبي صلى الله عليه
وسلم قبيلة تلو الأخرى، حتى طهّر المدينة منهم.
أما القوة
الثانية وهي قوة المشركين، فقد عقد معهم النبي صلى الله عليه وسلم «صلح الحديبية»؛
حتى يتفرغ للدعوة والدولة، لكن المشركين ما لبثوا أن نقضوا العهد، فعزم صلى الله
عليه وسلم على تأديبهم والقضاء على سلطانهم، وقد حدث ذلك في «فتح مكة»، حتى دانت
مكة والمدينة له صلى الله عليه وسلم.
2- الدقة
في التخطيط والإحكام في التنفيذ:
أكدت مصادر
السيرة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم أعدّ العدة لفتح مكة، حيث وضع خطة
محكمة لذلك، تبدأ بالسرية التامة في التحركات، فلم يخبر أحداً بوجهته الحقيقية،
حتى لا تصل الأخبار إلى قريش وتستعد للمواجهة.
كما حرص على
إحباط كل المحاولات التي من شأنها أن توصل الأخبار إلى مكة، كما حدث مع حاطب بن
أبي بلتعة، الذي كَتَبَ كِتَابًا إلَى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ بِاَلَّذِي أَجْمَعَ
عَلَيْهِ النبي صلى الله عليه وسلم مِنْ الْأَمْرِ فِي السَّيْرِ إلَيْهِمْ، ثُمَّ
أَعْطَاهُ امْرَأَةً، وَجَعَلَ لَهَا جُعْلًا عَلَى أَنْ تُبَلِّغَهُ قُرَيْشًا،
فَأَتَى النبي صلى الله عليه وسلم الْخَبَرُ مِنْ السَّمَاءِ، فَبَعَثَ عَلِيًّا
بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، فَخَرَجَا حَتَّى
أَدْرَكَاهَا، فَاسْتَنْزَلَاهَا، فَالْتَمَسَا فِي رَحْلِهَا، فَلَمْ يَجِدَا
شَيْئًا، فَقَالَ لَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: إنِّي أَحْلِفُ باللَّه مَا
كَذَبَ النبي صلى الله عليه وسلم وَلَا كَذَبْنَا، وَلَتُخْرِجِنَّ لَنَا هَذَا
الْكِتَابَ أَوْ لَنَكْشِفَنَّكَ، فَلَمَّا رَأَتْ الْجِدَّ مِنْهُ، قَالَتْ:
أَعْرِضْ، فَأَعْرَضَ، فَحَلَّتْ قُرُونَ رَأْسِهَا، فَاسْتَخْرَجَتْ الْكِتَابَ
مِنْهَا، فَدَفَعَتْهُ إلَيْهِ، فَأَتَى بِهِ النبي صلى الله عليه وسلم(2).
ومن أمارات
الدقة والإحكام في التنفيذ أنه صلى الله عليه وسلم قام بتقسيم الجيش الإسلامي
ليدخل مكة من جهاتها الأربع، ووزع الألوية على خالد بن الوليد، وأبي عبيدة بن
الجراح، والزبير بن العوام، وسعد بن عبادة، وفي هذا التقسيم ما يلفت الأنظار إلى
أن محاصرة العدو من جميع الاتجاهات تجبره على الاستسلام بلا قتال.
3-
الحرص على الأمن والاستقرار:
كان النبي صلى
الله عليه وسلم حريصاً على أن يدخل مكة من غير قتال، وقد ظهر ذلك في العديد من
المواقف، منها ما أورده ابن إسحاق أن سعداً بن عبادة كان قائداً لكتيبة الأنصار،
وعند دخولهم مكة قال سعد: الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمُ تُسْتَحَلُّ
الْحُرْمَةُ، فَسَمِعَهَا رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ: يَا رسول الله،
اسْمَعْ مَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، مَا نَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي
قُرَيْش صولة، فَقَال النبي صلى الله عليه وسلم لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: «أَدْرِكْهُ،
فَخُذْ الرَّايَةَ مِنْهُ فَكُنْ أَنْتَ الَّذِي تَدْخُلُ بِهَا».
وفي هذا حرص على
عدم سفك الدماء عند دخول مكة، بل إنه صلى الله عليه وسلم مهّد السبيل أمام الناس
لتحقيق الأمان، ففي مسند أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله
عليه وسلم قَالَ يَوْمَ «فَتْحِ مَكَّةَ»: «مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ،
وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ»، فَغَلَّقَ النَّاسُ
أَبْوَابَهُمْ.
4- الجمع
بين اللين والشدة:
كانت مظاهر
اللين في التعامل مع الناس يوم «فتح مكة» غير متوقعة بالنسبة لهم، فهم الذين آذوا
النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأخرجوهم من ديارهم، لذا كانوا يتوقعون أن يفتك
بهم، وينتقم لنفسه وأصحابه، فبينما هم يشهدون موقف دخوله مكة ووقوفه بها؛ إذ به
ينادي: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ فِيكُمْ؟»، قَالُوا:
خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ، قَالَ: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»(3).
هذا العفو كان
عاماً لكل الناس الذين سالموا وخضعوا، أما من اتخذ موقفاً مجابهاً للدعوة أو بالغ
في سبّه صلى الله عليه وسلم، أو خرج في مواجهة الجيش بالسلاح؛ فقد صرّح النبي صلى
الله عليه وسلم بقتلهم، ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة.
5- حفظ
هيبة الدولة الإسلامية:
تنوعت مظاهر
حرصه صلى الله عليه وسلم في «فتح مكة» على إبراز هيبة الدولة الإسلامية، ومن ذلك
ما فعله مع أصحابه حين أمرهم جميعاً أن يشعلوا النيران في مكان نزولهم على أطراف
مكة، حتى إذا رأى أهل مكة أعداد النيران المشتعلة؛ استعظموا أمر المسلمين وهابوهم.
ويضاف إلى ذلك
ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي سفيان بن حرب حين جاءه مع عمه العباس،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: «احبسه عند مضيق الوادي»، حتى إذا مرت عليه
القبائل، قال: من هؤلاء يا أبا الفضل؟ قال العباس: فقلت: هذا رسول الله في
المهاجرين والأنصار، فقال: يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً، فقلت:
ويحك، إنها النبوة، فقال: نعم إذن، فقلت ألحق الآن بقومك فحذرهم، فخرج سريعاً حتى
أتى مكة فصرخ في المسجد: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به،
قالوا: فمه؟ فقال: من دخل داري فهو آمن، قالوا: ويحك! وما تغني عنا دارك؟!
فقال: ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن.
6- الحسم
في القرارات المهمة:
من أهم ملامح
سياسة النبي صلى الله عليه وسلم في «فتح مكة» أنه كان حاسماً في اتخاذ بعض
القرارات المهمة، منها: طمس الصور وإزالة الأصنام من الكعبة المشرفة، فقد أمر
بتحطيم الأصنام وتطهير الكعبة منها، وأعلن أن مكة بلد حرام لا يجوز القتال فيها
بعد اليوم، وأنها لم تحل إلا له ساعة من نهار.
كذلك كان صلى
الله عليه وسلم حاسماً في مسألة مفتاح الكعبة، ففي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمر،
قال: أَقْبَلَ النبي صلى الله عليه وسلم عَامَ الفَتْحِ علَى نَاقَةٍ لِأُسَامَةَ
بنِ زَيْدٍ، حتَّى أَنَاخَ بفِنَاءِ الكَعْبَةِ، ثُمَّ دَعَا عُثْمَانَ بنَ
طَلْحَةَ، فَقالَ: «ائْتِنِي بالمِفْتَاحِ»، فَذَهَبَ إلى أُمِّهِ، فأبَتْ أَنْ
تُعْطِيَهُ، فَقالَ: وَاللَّهِ، لَتُعْطِينِهِ، أَوْ لَيَخْرُجَنَّ هذا السَّيْفُ
مِن صُلْبِي، قالَ: فأعْطَتْهُ إيَّاهُ، فَجَاءَ به إلى النبيِّ صلى الله عليه
وسلم فَدَفَعَهُ إلَيْهِ، فَفَتَحَ البَابَ.
وأورد ابن كثير
أنه دخل الكعبة صلى الله عليه وسلم، فوَجَدَ فيها حَمامةً مِن عِيدانٍ فكَسَرَها
بيَدِه ثم طَرَحَها، ثم وَقَفَ على بابِ الكَعبةِ فقال: «لا إلهَ إلَّا اللهُ
وَحدَه لا شَريكَ له، صَدَقَ وَعدَه، ونَصَرَ عَبدَه، وهَزَمَ الأحزابَ وَحدَه،
ألَا كُلُّ مَأثَرةٍ أو دَمٍ أو مالٍ يُدعى، فهو تَحتَ قَدمَيَّ هاتَيْنِ، إلَّا
سِدانةَ البَيتِ وسِقايةَ الحاجِّ»، ثم جَلَسَ النبي صلى الله عليه وسلم في
المَسجِدِ، فقامَ إليه علِيُّ بنُ أبي طالِبٍ ومِفتاحُ الكَعبةِ في يَدِه، فقال:
يا رسول الله، اجمَعْ لنا الحِجابةَ مع السِّقايةِ، صلَّى اللهُ عليكَ، فقالَ النبي
صلى الله عليه وسلم: «أينَ عُثمانُ بنُ طَلحةَ؟»، فدُعيَ له، فقال له: «هاكَ
مِفتاحُكَ يا عُثمانُ، اليَومُ يَومُ وفاءٍ وبِرٍّ».
___________________
(1) سيرة ابن
هشام (2/ 400).
(2) المرجع
السابق (2/ 398).
(3) البداية
والنهاية: ابن كثير (4/ 344).