اتفاق غزة.. تتويج لصمود الشعب الفلسطيني وكسر لغطرسة ‏الاحتلال

د. إياد القرا

11 أكتوبر 2025

62

بعد عامين من حرب الإبادة والتجويع والتدمير الممنهج، ‏يخرج الفلسطينيون من أتون النار باتفاق تاريخي يضع حدا ‏لواحدة من أكثر الحروب قسوة في العصر الحديث.‏

لكن هذا الاتفاق ليس منة من أحد، ولا ثمرة ضغوط سياسية ‏عابرة، بل حصيلة صمود أسطوري لشعب قرر أن يعيش ‏بكرامة، ومقاومة أدارت الحرب بوعي ومسؤولية حتى فرضت ‏شروطها على الاحتلال.‏

ثمرة الصمود والتضحيات

لم يكن ما تحقق وليد لحظة، بل جاء بعد عامين من الثبات ‏الميداني والجماهيري، قدم فيه الفلسطينيون أبهى صور ‏الصبر والتحدي.‏

رغم المجازر والجوع والحصار والدمار، لم تنكسر إرادة ‏الفلسطينيين، بل ازدادت قوة وإصراراً على التمسك بالأرض ‏والحق والمستقبل، ومن رحم هذا الصمود خرج الاتفاق ‏كتحول سياسي عميق.‏

لقد أثبتت غزة أن المقاومة خيار حياة لشعب يؤمن أن الحرية ‏تنتزع لا تمنح.‏

فكل بيت صمد، وكل أُم ودّعت أبناءها، وكل طبيب أو ‏متطوع واصل عمله تحت القصف، أسهم في كتابة هذه ‏اللحظة السياسية الفارقة.‏

فشل المشروع «الإسرائيلي»

دخل الاحتلال الحرب بأهداف واضحة؛ القضاء على «‏حماس»، ونزع سلاحها، وفرض وصاية خارجية على غزة، ‏واستعادة الأسرى بالقوة.‏

لكن النتائج جاءت معاكسة تماماً؛ فالمقاومة لم تُهزم، والبنية التنظيمية لم تُكسر، والأسرى لم ‏يُستعادوا بالقوة، بل عبر اتفاق فرضت فيه المقاومة قواعد ‏اللعبة.‏

لقد فشل الاحتلال في تحقيق أي من أهدافه، وفقد هيبته ‏العسكرية والسياسية، فيما تعمقت عزلته الدولية، وانهار ‏خطاب «الردع الكامل» الذي طالما تباهى به قادته.‏

وبات واضحاً أن نتنياهو خاض أطول حرب في تاريخ «‏إسرائيل» ليخرج منها بأضعف نتيجة سياسية وعسكرية في ‏تاريخه.‏

جوهر اتفاق غزة ومضامينه

تقوم بنود الاتفاق على 5 محاور أساسية تمثل جوهر ‏مطالب المقاومة والشعب الفلسطيني:‏

1- وقف شامل لإطلاق النار ووقف العدوان في ‏جميع مناطق القطاع.‏

2- انسحاب قوات الاحتلال من المناطق المأهولة ‏شمالاً وجنوباً تمهيداً لانسحاب كامل.‏

3- عودة النازحين إلى بيوتهم وأراضيهم دون قيود أو ‏شروط.‏

4- إدخال المساعدات الإنسانية وإطلاق عملية إعادة ‏الإعمار بإشراف وضمانات دولية.‏

5- تنفيذ صفقة تبادل الأسرى تشمل أصحاب ‏المؤبدات والأسرى القدامى وأسرى غزة.‏

هذه البنود ليست تفاصيل تفاوضية، بل إقرار بهزيمة أهداف ‏العدوان، وإعادة تعريف لمعادلة الردع التي تحكم العلاقة بين ‏المقاومة والاحتلال.‏

البعد السياسي لاتفاق غزة ‏

سياسياً، يشكل الاتفاق انعطافة في الوعي الدولي تجاه غزة ‏والمقاومة.‏

فبعد عامين من محاولات شيطنة المقاومة ونزع شرعيتها، ‏اضطرت القوى الكبرى للاعتراف بها كطرف لا يمكن تجاوزه ‏في أي ترتيبات قادمة.‏

كما أنه يعيد الاعتبار للبعد الوطني الفلسطيني في مواجهة ‏مشاريع الإدارة الدولية والوصاية الأجنبية التي روجت ‏في الأشهر الأخيرة، من جهة أخرى، يكشف الاتفاق هشاشة البنية السياسية «‏الإسرائيلية».‏

فنتنياهو، الذي تعهد بالقضاء على «حماس»، وجد نفسه يوقع ‏اتفاقاً يمنحها شرعية ميدانية وسياسية غير مسبوقة، ويكرس ‏فشل سياساته أمام الرأي العام «الإسرائيلي» والعالمي.‏

القراءة «الإسرائيلية» لاتفاق غزة

التحليلات العبرية التي صدرت عقب توقيع الاتفاق تؤكد ‏حجم الارتباك داخل «تل أبيب»،‏ ففي تقرير نشره المحلل العسكري في صحيفة «يديعوت ‏أحرونوت» آفي يسسخاروف، أقر بأن حكومة نتنياهو ‏‏نجحت في إطلاق سراح جميع الأسرى الأحياء وبعض ‏الجثامين، من دون انسحاب كامل من غزة، لكنها في المقابل ‏منحت «حماس» مكاسب سياسية غير مسبوقة.‏

وأضاف أن الحركة حصلت على وقف شامل للقتال ‏بضمانات دولية يصعب على «إسرائيل» خرقها، وعلى اعتراف ‏دولي واسع لم تحظ به من قبل، فيما دخلت «إسرائيل» في ‏عزلة سياسية خانقة نتيجة لسياسات حكومتها الفاشلة.

كما أوضح أن التحول الأمريكي الكبير، المتمثل بقرار ‏الرئيس دونالد ترمب فرض وقف الحرب على نتنياهو، جاء عقب ‏الغارة «الإسرائيلية» على قيادات «حماس» في قطر، التي أثارت ‏غضب واشنطن باعتبارها استهدافاً لحليف إستراتيجي.

ويختم يسسخاروف بالقول: إن «حماس» لن تتخلى عن سلاحها ‏لا الآن ولا في المستقبل القريب إلا بعد قيام دولة فلسطينية، ‏وإن الانتصار الكامل الذي وعد به نتنياهو بقي شعاراً فارغاً ‏من المضمون.”

هذه الشهادة «الإسرائيلية» تعكس إقراراً نادراً بفشل الاحتلال في ‏تحقيق أهدافه، وبانتصار الإرادة الفلسطينية في معركة البقاء ‏والوعي.‏

المقاومة وإدارة المعركة بوعي ومسؤولية

أثبتت المقاومة خلال الحرب وبعدها أنها تدير الميدان ‏والسياسة بعقل إستراتيجي متزن، يجمع بين الصلابة ‏العسكرية والمرونة السياسية.‏

وتعاملت مع الوسطاء الإقليميين (مصر، قطر، تركيا) بروح ‏مسؤولة دون تفريط في الثوابت، ووضعت مصالح شعبها ‏فوق الحسابات التكتيكية.‏

لقد أدارت المفاوضات بروح القيادة لا رد الفعل، ونجحت في ‏تحويل التضحيات الكبرى إلى مكاسب سياسية ملموسة.‏

إدارة المقاومة لهذه المعركة رسختها كفاعل وطني جامع، لا ‏كتنظيم محلي محاصَر، وأثبتت أن مشروعها لا يقوم على ‏الميدان وحده، بل على رؤية سياسية ناضجة تمتلك القدرة ‏على التفاوض من موقع القوة.‏

البعد الشعبي والإعلامي لاتفاق غزة ‏

الاتفاق لا يخص المقاومة وحدها، بل هو ثمرة شعب بأكمله ‏عاش عامين في الجحيم دون أن ينكسر.‏

ولذلك، فإن التناول الإعلامي للاتفاق يجب أن يعكس روح ‏الانتصار الواعي لا الاحتفال العابر.‏

الانعكاسات الإقليمية والدولية لاتفاق غزة ‏

لن تقتصر تداعيات الاتفاق على غزة وحدها، بل تمتد إلى ‏الإقليم والعالم.‏

فقد أثبتت التجربة أن التطبيع مع الاحتلال لم يجلب الأمن ‏ولا الاستقرار، وأن الشعوب العربية ما زالت ترى في فلسطين ‏بوصلتها الأخلاقية والسياسية.‏

أما دولياً، فقد أجبر فشل الحرب وجرائمها الرأي العام ‏العالمي على إعادة النظر في الموقف من «إسرائيل»؛ ما عزَّز ‏عزلتها وكشف زيف خطابها الديمقراطي.‏

كما أن التحول الأمريكي في فرض الهدنة يؤكد أن الولايات ‏المتحدة بدأت تتعامل مع غزة باعتبارها واقعاً سياسياً لا يمكن ‏تجاهله، وأن أمن المنطقة بات مشروطاً بإنهاء الاحتلال لا ‏بتوسيع دوائر الحرب.‏

اتفاق غزة كمرحلة لا كنهاية

لا ينبغي التعامل مع الاتفاق كخاتمة للصراع، بل كبداية ‏لمرحلة جديدة من النضال الوطني والسياسي.‏

فهو محطة على طريق طويل من التحرر، تتطلب وعياً ‏وتنظيماً ووحدة صف فلسطينية حقيقية، تستثمر الإنجاز ولا ‏تضيعه.‏

ما تحقق في غزة ليس هدنة فقط، بل انتصار للإنسان ‏الفلسطيني على آلة الإبادة، وانكسار لغطرسة الاحتلال الذي ‏ظن أنه قادر على إخضاع شعب بالإبادة والتجويع.‏

لقد أثبتت التجربة أن القوة ليست في السلاح وحده، بل في ‏الإيمان والوعي والوحدة.، وها هي غزة، بعد عامين من النار، ترفع رأسها لتقول للعالم:‏ ما لم ينتزع بالدم لن يفرض بالحصار، وما لم يكسر في ‏الحرب لن يهزم على الطاولة.‏

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة