استخدام السلف للأدلة العقلية في إثبات العقائد

عُرف منهج السلف
الصالح بالاعتماد على النصوص الشرعية من كتاب وسُنة في إثبات العقائد الإسلامية،
لكن هذا لا يعني إغفالهم للأدلة العقلية والبراهين المنطقية، فإن لاستخدام الدليل
العقلي أصلاً في كتاب الله تعالى؛ لذا استخدمه السلف الصالح وتابِعوهم في تقرير
العقائد، وللرد على الشبهات، ولإقامة الحجج على المخالفين.
قال شيخ الإسلام
ابن تيمية: «فهذا الإمام أحمد وسائر السلف، كانوا يستخدمون الأدلة العقلية في
إثبات العقائد، وفقاً لما ورد في القرآن، فكانوا يستخدمون قياس الأولى والأحرى
والتنبيه، في باب النفي والإثبات، فمسلك الإمام أحمد وغيره مع الاستدلال بالنصوص
وبالإجماع؛ مسلك الاستدلال بالفطرة والأقيسة العقلية الصحيحة المتضمنة للأولى»
(بيان تلبيس الجهمية: 5/ 83)، وفي هذا المقال نذكر إشارة من ذلك لا تغني المتتبع.
استخدام
السلف لدليل قياس الأوْلى في إثبات صفات الله تعالى وكمالها
قياس الأوْلى:
هو طريق إثبات الكمال لله، فما كان كمالًا لغيره فهو أحق به منه، لأن له المثل
الأعلى في كل كمال لا نقص فيه، وأصل هذا الدليل في كتاب الله تعالى، وقد جاء في 3
مواضع من القرآن:
أحدها: قوله
تعالى: (لِلَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (النحل: 60)، والثاني: قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ
ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الروم: 27)،
والثالث: قوله تعالى: (لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: 11).
قال الإمام أحمد
بن حنبل عندما استعمل هذا القياس أثناء رده على نفاة الصفات من الجهمية: «ووجدنا
كل شيء أسفل منه مذموماً، يقول الله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ
النَّارِ) (النساء: 145)، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا
الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ
أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) (فصلت: 29)» (الرد على
الجهمية والزنادقة، ص 49).
وقد قال شيخ
الإسلام ابن تيمية تعليقاً على هذا الاستعمال من الإمام أحمد: «وهذه الحجة من باب
قياس الأولى، وهو أن السفل مذموم في المخلوق، حيث جعل الله أعداءه في أسفل
السافلين، وذلك مستقر في فطر العباد، حتى إن أتباع المضلين طلبوا أن يُجعلوا تحت
أقدامهم؛ ليكونوا من الأسفلين، وإذا كان هذا مما ينزه عنه المخلوق، ويوصف به
المذموم المعيب من المخلوق، فالرب تعالى أحق أن ينزه ويقدس عن أن يكون في السفل،
أو أن يكون موصوفاً بالسفل، هو أو شيء منه، أو يدخل ذلك في صفاته بوجه من الوجوه،
بل هو العلي الأعلى بكل وجه» (بيان تلبيس الجهمية 2/ 543).
ويؤكد ابن تيمية
استخدام السلف لهذا القياس فيقول: «وأما قياس الأولى الذي كان يسلكه السلف اتباعاً
للقرآن، فيدل على أنه يثبت له من صفات الكمال التي لا نقص فيها، أكمل مما علموه
ثابتاً لغيره، مع التفاوت الذي لا يضبطه العقل، كما لا يضبط التفاوت بين الخالق
والخلوق، بل إذا كان العقل يدرك من التفاضل الذي بين مخلوق ومخلوق ما لا يحصر
قدره، وهو يعلم أن فضل الله على كل مخلوق أعظم من فضل مخلوق على مخلوق، كان هذا
مما يبين له أن ما يثبت للرب أعظم مما يثبت لكل ما سواه بما لا يدرك قدره» (مجموع
الفتاوى 9/ 145).
توظيفُ
أئمة السلف للقرينة العقلية لدفع الاستدلال الغالط من الجهمية على أن القرآن مخلوق
استدل السلف
بحديثِ النبي صلى الله عليه وسلم: «يجيء القرآنُ يوم القِيامَةِ في صورة الشَّابِ
الشَّاحبِ، فيأتي صاحِبَهُ فيقول: هل تَعْرفني؟ فيقول له: مَنْ أَنت؟ فيقولُ: أَنا
القُرآنُ الَّذي أَظمأَتُ نَهَارَكَ، وأَسْهَرتُ لَيْلَكَ، قال: فيأتي به اللهُ،
فيقولُ: يا ربِّ!..» الحديث (أخرجه ابن ماجه 3781، وأحمد 22976) في أن القرآن كلام
الله غير مخلوق.
وعضدوا ذلك
بالدليل العقلي، فيما قرر الإمام الدارمي بقوله: «.. أنه قد عقل كل ذي عقل ورأي أن
القول لا يتحوَّل صورةً لها لسان وفَم ينطق ويشفع، فحين اتَّفقت المعرفةُ من
المسلمين أن ذلك كذلك، علموا أن ذلك ثَوابٌ يُصوره الله بقدرته صورةَ رَجل يُبشِّر
به المؤمنين؛ لأنَّه لو كان القرآنُ صورةً كصورة الإِنسانِ لم يتشعَّبْ أكثرَ من
ألف ألف صورة، فيأتي أكثر من ألف ألف شافعاً وماحلاً؛ لأنَّ الصورة الواحدةَ إذا
هي أتت واحداً؛ زالت عن غيره، فهذا معقولٌ لا يجهله إلا كل جهول» (نقض الإمام أبي
سعيد عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد للدَّارمي 1/ 501).
ومقصوده من هذا
الاستدلال امتناع إسناد المجيء إلى القرآن نَفسه؛ لأنَّ ذلك يَستلزمُ تشعُّب صورته
بعدد من يَشفع لهم، وكذلك تعدد المجيء، وهذا غير جارٍ على قانون العقل؛ فلا يكوم
الشيءُ في مكانين في وقت واحد.
رد
السلف على المنكرين لعذاب القبر ونعيمه بدليل ضرورات العقل الفطرية
نقَض الإمام ابن
جرير الطبري دعوى المانعين من حصول العذاب والنعيم في القبر مُعْتلِّين في ذلك
بانتفاء حياة الميت؛ وذلك بالإبانة عن جواز ذلك وعدم مناكدة العقل له، وقد ساق
دعواهم ثم قال: «علتنا في الإيمان بجميعه والتصديق به: علة واحدة؛ وهو تظاهر
النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به، مع جوازه في العقل وصحَّته فيه؛ وذلك
أنَّ الحياة معنى، والآلام واللَّذَّات والعلوم معانٍ غيره، وغير مستحيل وجود
الحياة مع فَقْدِ هذه المعاني، ووجود هذه المعاني مَع فقد الحياةِ لا فرقَ بين ذلك»
(التبصير في معالم الدين، ص211، 212).
وعليه؛ فمن هذه
الإشارة يظهر لنا أن السلف الصالح قد تمثلوا بالقرآن الكريم في استخدام الدليل
العقلي في إثبات العقائد، فلم يروا أن العقل يخالف النقل فيهملوه، ولم يروا أن
استمداد مادة الجدال بالدليل العقلي مفتقرة إلى غير مادة الوحي قرآناً وسُنة
فيلجؤوا إليها مثل المتكلمين، وهذا المنهج الوسط هو الذي يحقق الاستدلال الصحيح
للعقائد الإسلامية، بعيداً عن الإفراط والتفريط.