استخدام رسائل التأنيس والطمأنينة

بعد أن وقفنا في المقال السابق على أهمية
مراعاة النفسية والاحتياجات العاطفية للأبناء، وأثرها العميق في بناء الثقة
والسكينة الداخلية لديهم، يتجلّى لنا اليوم جانب عملي من هذا المبدأ، يتمثل في
استخدام النبي صلى الله عليه وسلم لرسائل الطمأنينة والتأنيس في تعامله مع الأبناء
والصغار؛ حيث لم تكن التربية النبوية مجرد توجيهات عقلية أو تعليمات سلوكية، بل
كانت حِضنًا دافئًا يَفيض بالعاطفة، وتواصلاً حيًّا يلامس القلب، ويشيع الطمأنينة
في النفوس الناشئة.
ومن أهمّ الوسائل التي استخدمها النبيّ صلى
الله عليه وسلم كرسائل طمأنينة لنفسية الأبناء ما يلي:
1- الملامسة البدنيّة المُعبِّرة:
كالأخذ باليد، والاحتضان والمعانقة،
والمصافحة، ووضع الكفّ بالكفّ، والمسح على الرأس، والتقبيل، كلها وسائل اتصال
بدنية تعبّر عن الطمأنينة والمحبّة؛ ما تَتْرُكُ معه أثرًا كبيرًا في نفسية
الأبناء.
فقد ورد عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ،
قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبِي، فَقَالَ: «كُنْ فِي
الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ»، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ،
يَقُولُ: «إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ
فَلاَ تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ
لِمَوْتِكَ»(1).
وعن ابن مَسْعُودٍ، قال: عَلَّمَنِي
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، وَكَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ، التَّشَهُّدَ، كَمَا
يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ: «التَّحِيَّاتُ لِله، وَالصَّلَوَاتُ
وَالطَّيِّبَاتُ..»(2)، وحين علّم الرسول صلى الله عليه وسلم الغلام
أبا محذورة الأذان، مسح على مقدّمة رأسه(3).
وكان حرص النبي صلى الله عليه وسلم على
تقبيل أبنائه وبناته، حيث كان يُقبّل ابنته فاطمة بين عينيها، ففي الحديث: عن
أُمِّ المؤمنين عائشةَ، أنها قالت: ما رأيتُ أحَداً كان أشْبَهَ سَمْتاً وهَدْياً
ودَلاً برسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِن فاطمةَ، كانت إذا دَخَلَتْ عليه قام
إليها، فأخذ بيدها، وقبَّلَهَا، وأجلسَها في مجلسه، وكان إذا دَخَلَ عليها قامَتْ
إليه فأخذتْ بيدِه فقبَّلَتْه، وأجلسَتْه في مَجْلِسها(4).
وكان يقبّل الحسن، والحسين، وإبراهيم، فعَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
عَلَى أَبِي سَيْفٍ القَيْنِ، وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ
السَّلاَمُ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِبْرَاهِيمَ،
فَقَبَّلَهُ، وَشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ
يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عبدالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ؟ فَقَالَ: «يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ»، ثُمَّ أَتْبَعَهَا
بِأُخْرَى، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ
يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا
إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ»(5).
2- الحفاوة بالأبناء إذا أقبلوا والسؤال عنهم إذا فُقِدُوا:
ومن الوسائل أيضًا أن يُظهر المربي حفاوة
واحتفاء بابنه إذا أقبل؛ تشجيعًا له وتطمينًا لنفسيّته، وهذا مما له أكبر الأثر في
بناء الشخصية السوية، وقد كان صلى الله عليه وسلم يصنع هذا مع الأبناء والشباب
والمتعلمين.
ففي الخبر عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ
قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ مُرَادٍ يُقَالُ لَهُ صَفْوَانُ بْنُ عَسَّالٍ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ مُتَّكِئٌ عَلَى
بُرْدٍ لَهُ أَحْمَرَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي جِئْتُ أَطْلُبُ
الْعِلْمَ قَالَ: «مَرْحَبًا بِطَالِبِ الْعِلْمِ، إِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ
لَتَحُفُّ بِهِ الْمَلَائِكَةُ وَتُظَلِّلُهُ بِأَجْنِحَتِهَا فَيَرْكَبُ
بَعْضُهَا بَعْضًا حَتَّى تَعْلُوَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا مِنْ حُبِّهِمْ
لِمَا يَطْلُبُ فَمَا جِئْتَ تَطْلُبُ(6)؟
فمع ترحيبه بمن حضـر منهم، كان يتفقّد
ويسأل عمّن غاب أو تأخر؛ ففي الحديث عن أبي هريرة أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه
وسلم لَقِيَهُ فِي بَعْضِ طَرِيقِ المَدِينَةِ وَهُوَ جُنُبٌ، فَانْخَنَسْتُ(7)
مِنْهُ، فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: «أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا
هُرَيْرَةَ؟» قَالَ: كُنْتُ جُنُبًا، فَكَرِهْتُ أَنْ أُجَالِسَكَ وَأَنَا عَلَى
غَيْرِ طَهَارَةٍ، فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ، إِنَّ المُسْلِمَ لاَ يَنْجُسُ»(8).
3- تلبية النبيّ دعوة بعض الشباب إلى طعام أو مجلس:
ورد عند أحمد من حديث عبدالله بن بُسْرٍ
الْمَازِنِيُّ، قَالَ: بَعَثَنِي أَبِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
أَدْعُوهُ إِلَى طَعَامٍ فَجَاءَ مَعِي، فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنَ الْمَنْزِلِ
أَسْرَعْتُ، فَأَعْلَمْتُ أَبَوَيَّ فَخَرَجَا فَتَلَقَّيَا رَسُولَ اللهِ صلى
الله عليه وسلم وَرَحَّبَا بِهِ، وَوَضَعْنَا لَهُ قَطِيفَةً كَانَتْ عِنْدَنَا
زِئْبِرِيَّةً(9) فَقَعَدَ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ أَبِي لِأُمِّي: «هَاتِ
طَعَامَكِ»، فَجَاءَتْ بِقَصْعَةٍ فِيهَا دَقِيقٌ قَدْ عَصَدَتْهُ بِمَاءٍ
وَمِلْحٍ، فَوَضَعْتُهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «خُذُوا
بِسْمِ اللهِ مِنْ حَوَالَيْهَا، وَذَرُوا ذُرْوَتَهَا، فَإِنَّ الْبَرَكَةَ
فِيهَا»، فَأَكَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَكَلْنَا مَعَهُ،
وَفَضَلَ مِنْهَا فَضْلَةٌ، ثُمَّ قَالَ: «اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُمْ،
وَارْحَمْهُمْ، وَبَارِكْ عَلَيْهِمْ، وَوَسِّعْ عَلَيْهِمْ فِي أرزاقهم..»(10).
4- الممازحة والتبسط مع الصغار:
عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان يمازح الصبيان ويتبسّط معهم؛ خاصة أصحاب الأعذار منهم، فيحكي أنس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: «يَا ذَا الأُذُنَيْنِ»؛ يَعْنِي مَازَحَهُ(11)، ومازح أخاه الصغير يومًا؛ فعن أنس أنه قال: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيُخَالِطُنَا، حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِيرٍ: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ»(12)، وهذه الممازحَة اللطيفة لا تذهب بوقار الأبويْن والمربين.
___________________
(1) صحيح البخاري: كتاب الرقاق، بَابُ
قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ
أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» (6416).
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، بَابُ
التَّشهُّدِ فِي الصَّلاةِ (402) وأخرجه البخاري في كتاب الاستئذان، بَابُ
الأَخْذِ بِاليَدَيْنِ (6265) واللفظ له.
(3) أخرجه أحمد في مسنده: مسند المكيين،
أَبُو مَحْذُورَةَ الْمُؤَذِّنِّ (15379)، والحديث صحيح.
(4) سنن أبي داود: أبواب النوم، باب في
القيام، وقال عنه الشيخ شعيب الأرنؤوط في التحقيق: إسناده صحيح.
(5) صحيح البخاري: كتاب الجنائز، بَابُ
قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ» (1303).
(6) جامع بيان العلم وفضله: أبو عمر يوسف
بن عبدالله بن محمد بن عبدالبر بن عاصم النمري القرطبي، تحقيق: أبي الأشبال
الزهيري، ج1، ص155، (162)، ط1/ 1414هـ/ 1994م، دار ابن الجوزي، المملكة العربية
السعودية،
(7) انخنس أي: انقَبَضَ وَتَأَخَّرَ، ينظر:
النهاية في غريب الحديث والأثر، ج2، ص83.
(8) صحيح البخاري: كتاب الغسل، بَابُ
عَرَقِ الجُنُبِ، وَأَنَّ المُسْلِمَ لاَ يَنْجُسُ (283).
(9) ذات وبَر؛ ليتمكّن من الجلوس عليها
براحة واطمئنان.
(10) أخرجه أحمد: مسند الشاميين، حَدِيثُ
عبداللهِ بْنِ بُسْرٍ الْمَازِنِيِّ (17678)، وهو حديث إسناده صحيح.
(11) سنن الترمذي: أبواب البر والصلة،
بَابُ مَا جَاءَ فِي المِزَاحِ (1992)، وقال عنه الشيخ شاكر: صحيح.
(12) صحيح البخاري: كتاب الأدب، بَابُ
الانْبِسَاطِ إِلَى النَّاسِ (6129).