استعادة مجد ضائع.. الإمام الليث بن سعد في مرآة التجديد

في زمن الأمة
المثقل بالهوية والتاريخ تبرز الحاجة إلى استعادة النماذج الحضارية التي أسهمت في
تشييد صرح الأمة العلميِ والأخلاقي، وفي ظل الحاجة المُلحة إلى نماذج العلماء المجددين، يأتي كتاب «الإمام المجدد الليث بن سعد الفقيه والمحدث والإنسان»
للدكتور أحمد علي سليمان، ليقدم للقارئ العربيِ والإسلامي صورة مشرقة عن عَلَمٍ من
أعلام التجديد في التاريخ الإسلامي، امتزجت فيه العلمية الفذَّة بالإنسانية
الوثَّاقة والأخلاق الرفيعة.
يُعد د. أحمد
علي سليمان، عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، المدير التنفيذي السابق لرابطة
الجامعات الإسلامية، من رجالات الأمة الجادين في البحث العلمي الذين جمعوا بين
العمق الأكاديمي والأصالة الإسلامية، ويأتي هذا الكتاب ليجسد حرصه على إحياء تراث
الأمة، وإبراز رموزها الذين أسهموا في تشييد صرح الحضارة الإسلامية.
يقسم المؤلِّف
كتابه إلى ثلاثة فصول متكاملة، تسبقها مقدمة موسعة، وتليها خاتمة تضمنت أهم
النتائج والتوصيات، وهي كتالي:
الفصل الأول:
عصر الإمام الليث بن سعد: يُقدم تحليلاً عميقًا للسياق التاريخي والثقافي الذي عاش
فيه الإمام، مع التركيز على البيئة المصرية التي كانت تعج بالحركة العلمية، وتُعد
منارة للعلم والمعرفة في ذلك العصر.
الفصل الثاني:
شخصية الإمام المجدد الليث بن سعد: يتناول الأبعاد المختلفة لشخصية الإمام، من
حيث:
- البُعد
العلمي: حيث برز في الفقه والحديث واللغة، وبلغ درجة الاجتهاد المطلق.
- البُعد
الإنساني: يتميز بكرمه وسخائه الفائق.
- البُعد
التجديدي: حيث كان صاحب منهج مستقل في الاجتهاد.
الفصل الثالث:
مختارات من آثار الإمام الفقهية والحديثية: يستعرض جانبًا من تراث الإمام العلمي،
ويُبرز جهوده في خدمة السُّنة النبوية.
ويبرز الكتاب
صورة الإمام الليث بن سعد، المولود في عام 94هـ، والمتوفى في عام 175هـ، كأحد أبرز
أعلام الفقه والحديث في التاريخ الإسلامي، الذي كان إمام أهل مصر في عصره وصاحب
أحد المذاهب الإسلامية المندثرة، يذكر المؤلِّف أن الإمام الليث كان «عربي اللسان،
يحسن النحو ويحفظ الشعر والحديث»، وقد نبغ في جُل العلوم الدينية واللغوية، لكنه
اعتنى عناية كبيرة بسُنة النبي صلى الله عليه وسلم وبالفقه الإسلامي.
ولعل أبرز ما
تميز به الكتاب أنه لم يقتصر على عرض سيرة الإمام من جوانبها العلمية فحسب، بل
أبرز أيضًا بُعده الإنساني الفريد، حيث يذكر المؤلِّف أن الإمام كان يُطعِم الناس
في الشتاء «الهرائس بعسل النحل وسمن البقر»، وفي الصيف «سويق اللوز في السكر»،
وهذا الكرم لم يكن ماديًا فحسب، بل كان كرمًا علميًا أيضًا، حيث كان المسلمون يهرعون
إلى دروسه ومجالسه ويقبلون عليه في شوق ويستمعون إليه بإنصات.
يؤكد الكتاب أن
الإمام الليث كان صاحب منهج مستقل في الاجتهاد، حتى قال عنه الإمام الشافعي: «الليث
أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به»، وهذا يبرز أهمية دراسة تراث الأئمة
المجتهدين الذين لم يُكتب لمذاهبهم الاستمرار.
يبرز الكتاب دور
الإمام الليث في الدفاع عن السُّنة النبوية ضد الوضَّاعين والمغرضين، حيث كان من
بين العلماء الذين حفظوا السُّنة الشريفة، ودافعوا عنها، ونفضوا الغبار المثار في
وجهها في وقت حرج من تاريخ الإسلام.
كما يتجلى
تميُّز هذا العمل في خصائص عدة جعلته إضافة نوعية للمكتبة الإسلامية، من أبرزها:
1- المنهجية
العلمية الرصينة: اعتمد المؤلِّف على مصادر موثوقة، وقدم تحليلاً متعمقًا يجمع بين
السرد التاريخي والتحليل الفكري.
2- الشمولية في
تناول الشخصية: لم يقتصر الكتاب على الجانب العلمي للإمام، بل تناول أبعاده
الإنسانية والاجتماعية؛ ما قدم صورة متكاملة عن هذه الشخصية الفذة.
3- الربط بين
التراث والمعاصرة: نجح المؤلِّف في استخلاص الدروس والعبر من سيرة الإمام؛ ما يجعل
الكتاب ذا قيمة عملية للمسلم المعاصر.
4- الأسلوب
الأدبي الرفيع: تميز الكتاب بلغة عربية راقية، وجمل مشرقة، تجمع بين دقة الأكاديمي
وروعة الأدبي.
5- الرد على
الشبهات والإشكالات: أجاب الكتاب على الإشكالات التاريخية حول شخصية الإمام، مثل
التساؤل عن كونه فقيهًا أم محدثًا، مؤكدًا أنه جمع بينهما بأعلى درجات التميز.
يُعد هذا الكتاب
إضافة نوعية للمكتبة الإسلامية، إذ يُحيي تراث إمامٍ مجدد لم يأخذ حظه من الدراسة
والبحث، ويُبرز الدور الحضاري لمصر كمنارةٍ للعلم والمعرفة عبر العصور، كما يُقدم
نموذجًا للعالِم المجتهد الجامع بين العلم والعمل والأخلاق، ويجيب في الوقت نفسه
على الإشكالات التاريخية المثارة حول شخصية الإمام.
إن هذا الكتاب
مُوجَّه إلى جمهور واسع من القراء والباحثين، وفي مقدمتهم المهتمون بالتاريخ
الإسلامي والتراث العلمي للأمة، والساعون إلى استلهام نماذج مشرقة تجمع بين العلم
والأخلاق، والدارسون لفقه الأئمة والاجتهاد في الإسلام، فضلاً عن كل من يرغب في
التعرف على مناهج التجديد في الفكر الإسلامي.
كتاب «الإمام
المجدد الليث بن سعد الفقيه والمحدث والإنسان» ليس مجرد سيرةٍ تاريخية فحسب، بل هو
رحلة في أعماق تراث أمتنا، واستعادة لذكرى عَلَمٍ من أعلامها، قدم نموذجًا للعالِم
الرباني الذي جمع بين العلم الشرعي والأخلاق القرآنية، وهو بلا شك إضافة قيمة تثري
المكتبة الإسلامية، وتفتح نافذة على تراثنا المجيد، وتذكرنا بأن أمتنا لم تبنِ
حضارتها العظيمة إلا بمثل هذه النماذج الراشدة من العلماء العاملين.