استهداف المنظومة الإغاثية.. هل يخشى الاحتلال الطعام كما يخشى السلاح؟

أمام جثامين أبنائه الستة، وقف الأب المكلوم إبراهيم أبو مهادي يبكي عمراً
كاملاً من الشقاء، ربى فيها فلذات أكباده كما يقولون: «كل شبر بندر»، ليودعهم الآن
وقد رحلوا جميعهم دفعة واحدة بصاروخ وكفن.
أكفان بيضاء ترتص بجانب بعضها، يبكي أمامها أبو مهادي طفولتهم وذكرياتهم
وشبابهم وأطفالهم وأفراحهم ونجاحاتهم وسنوات كان يحظى بها الأب المكلوم بالعزوة
والسند، حين كانوا يحيطونه حول مائدة الطعام، فيوم رحيلهم سيعود أمام طبق وحيد لا
أحد يؤنسه.
لم تسع الفرحة أبو مهادي أن كبر أبناؤه وأصبح يتكئ عليهم، فقد كانوا يقولون
له: كنت عكازنا في طفولتنا وشبابنا، وبعد عمر كامل من العطاء والتضحية نحن الآن
عزوتك وسندك ومتكؤك، وأمام جثامينهم علم أنه سيبقى وحيداً دونهم.
اختار أبناء الحاج إبراهيم أبو مهادي العمل الإغاثي منذ اليوم الأول لحرب
الإبادة على غزة، فقد أراد المحتل الغاشم لأطفال وأبناء غزة التجويع، فأحكم إغلاق
المعابر ومنع دخول المساعدات، حتى ساء حال الناس بشكل لا يطاق.
كان الأبناء الستة لأبي مهادي يخرجون منذ ساعات الفجر الأولى إلى المكان
الذي يجهزون به التكيات، حتى ساعات الظهر قبل أن يبدأ النازحون في مواصي خان يونس
أطفالاً ونساء ورجالاً المجيء بأطباق فارغة ونفوس ملهوفة يريدون العودة بطعام يملأ
بطونهم الخاوية.
الاحتلال يعرقل وصول
المساعدات ويستهدف العاملين في الإغاثة
في صباح 13 أبريل 2025م، تجمع الحاج أبو مهادي على مائدة الفطور برفقة
أبنائه، ثم انطلقوا لعملهم الإغاثي يجهزون وجبات الغداء للنازحين، وبعد نصف ساعة
من مغادرتهم البيت، رن هاتف الأب الساعة الثامنة صباحاً، فخشي من رنين الهاتف
المبكر الذي كان برقم خال أبنائه، ليخبره بخبر صاعق: «الشباب انقصفت سيارتهم
واستشهدوا كلهم».
يستهل أبو مهادي حديثه عن أبنائه: يعمل أبنائي بتكية الطعام منذ عام، حتى
ابني الصغير رافقهم، يخففون حدة الحرب والجوع على نفوس النازحين، يحبون مساعدة
المهجرين عن بيوتهم، ويحاولون جميعهم سد رمق العائلات الجائعة من حصار الحرب.
وفي حديثه لـ«المجتمع»، يقول الحاج أبو مهادي: جميع أبنائي حصلوا على
شهادات مرموقة، ومع بدء الحرب وقطع الاحتلال لشريان الحياة في غزة، اتفقوا على
إنشاء مشروع إطعام النازحين والفقراء، وكان ممولاً من مؤسسة بريطانية، والجميع
يشهد لهم بالخير، وكانوا حريصين أن يبقى الناس صامدين، ولكن المحتل الغاشم
استهدفهم بصاروخ فتت أجسادهم بمجرد أنهم يعملون في العمل الإنساني، فعاقبهم عليه
وقتلهم.
ويضيف: أبنائي، كان يؤلمهم جوع الأطفال ووقوف العائلات أمام التكيات في
الجو الحار، فكانوا يذهبون بأنفسهم لإيصال الوجبات للفقراء، ويتشاركون بمساعدة
عمال آخرين في إعداد الطعام، كانوا يلفون السوق مرات ومرات كي يشتروا سلعاً بأقل
الأسعار، حتى يستطيعوا تقديم وجبات لأكبر عدد من الناس، وكانت تصل بالعادة إلى 5
أو 9 آلاف وجبة.
استهداف متعمد للإغاثة
لم يكن استهداف المحتل العنجهي لمجموعات الإغاثة يقتصر على أبناء أبي مهادي،
فمنذ بدء حرب الإبادة على غزة يستهدف جيش الاحتلال المجموعات الإغاثية والمؤسسات
التي تطعم النازحين، حتى طال استهدافهم للأشخاص الذين يعملون لإغاثة الناس بشكل
شخصي.
ويأتي هذا القتل المتعمد والاستهداف المباشر لهم في ظل وضع المحتل الصهيوني
كثيراً من العراقيل أمام وصول المساعدات الإنسانية بهدف حرمان المواطنين في غزة من
السلع والمواد التي تبقيهم على قيد الحياة، عدا عن ذلك تستهدف العاملين في المجال
الإنساني أثناء قيامهم بمهمات إغاثية داخل مركباتهم، كما تستهدف مقراتهم المتخصصة
لتجهيز الطعام للناس وتوزيعها، واعتقلت عدداً منهم وأخضعتهم للتحقيق وسوء المعاملة
والتعذيب في مراكز التحقيق «الإسرائيلية».
انتهاكات كثيرة أخرى ارتكبها جيش الاحتلال بحق العاملين في الإغاثة، كقصف
وتدمير مقرات ومراكز ومخازن توزيع المساعدات الإنسانية للاستهداف، التابعة
للمؤسسات الدولية أو المحلية التي كانت مخصصة لتقديم الغوث للنازحين، عدا عن
استهدافه المخابز وسيارات توزيع مياه الشرب، وأماكن توزيع الطحين.
قصف التكيات الخيرية
يسفر عن استشهاد أطفال أثناء بحثهم عن الغذاء
كما لم يكتف المحتل الغاشم باستهداف العاملين في الإغاثة، فقد تكرر هجوم
المستوطنين للقوافل الإنسانية الإغاثية وعرقلت وصولها إلى قطاع غزة، كما تغلق
الطرق المؤدية إلى معبر كرم أبو سالم، ومنعت مرور الشاحنات المحملة بالمساعدات
الإنسانية عبر معبر نيتسانا بين مصر و«إسرائيل»، وعلى حاجز ترقوميا ومحيط مستوطنة كريات
أربع الواقعة جنوب مدينة الخليل، كما قاموا عدة مرات بتفريغ محتويات الشاحنات
وإلقائها على الطريق وإتلافها.
جرائم لا تُحصى
وفي أبشع جريمة ارتكبها جيش الاحتلال بحق المواطنين في غزة كانت في 29
فبراير 2024م، حيث أطلقوا النار عبر دباباتهم وقانصاتهم المتمركزة جنوب غرب مدينة
غزة النار بكثافة تجاه آلاف المواطنين الذين تمركزوا قرب دوار النابلسي على شارع
الرشيد، حيث كانوا ينتظرون وصول شاحنات الدقيق والمعلبات الغذائية، وعند وصولها
شرعوا في محاولة الحصول عليها والتسلق للأخذ منها، فباغتتهم قوات الاحتلال بإطلاق
النار بكثافة تجاههم، فاستشهد 118 من المدنيين وأصيب 760 بجروح.
هذه الجرائم وغيرها ارتكبها جيش الاحتلال الصهيوني في ظل حالة فرضها المحتل
الغاشم على أهالي قطاع غزة من شمالها إلى جنوبها، وهو يحكم الإغلاق عليهم من جميع
المعابر والاتجاهات ليبقيهم في حالة تجويع غير مسبوقة.
وبحسب الإحصاءات الأخيرة التي أعلنت عنها وزارة الصحة في قطاع غزة أخيراً،
فقد ارتفع عدد وفيات الأطفال جراء سوء التغذية والمضاعفات الصحية إلى 57 طفلاً.
وفي بيان لها، أعلنت الوزارة أن الاحتلال الصهيوني يواصل سياسته الممنهجة
في تجويع أكثر من مليوني إنسان منذ أكثر من شهرين، كما أن القصف المباشر للتكيات
الخيرية أدى إلى استشهاد عدد من الأطفال خلال محاولتهم الحصول على حصص غذائية تسد
رمقهم.
منذ بدء حرب الإبادة الجماعية التي يشنها على سكان قطاع غزة، تعمد الاحتلال
إعدام كافة الجهود الإنسانية وأعمال الإغاثة، التي تنفذها المؤسسات بشكل حيادي
وبدون تمييز لغوث المدنيين، كما أنه يستهدف العاملين في الخطوط الأمامية لإغاثة
النازحين؛ الأمر الذي يعمق الأزمة الإنسانية، ويجعل الأمور كارثية، ليبقى السؤال
عالقاً مع كل شهيد يرتقي بسبب المجاعة أو استهداف العاملين في الإغاثة والإطعام: هل
يخشى المحتل الصهيوني الطعام كما يخشى من السلاح؟!