اقتصاد الفقراء.. بين البقاء والابتكار

سعد العتيبي

17 أغسطس 2025

177

في كل مجتمع، هناك طبقات اجتماعية متعددة، لكن الفقراء يبتكرون دائمًا أنماطًا خاصة بهم من أجل البقاء، هذا ما يُعرف باقتصاد الفقراء أو الاقتصاد غير الرسمي، وهو الاقتصاد الذي ينشأ خارج الرقابة الحكومية والتشريعات الرسمية، إنه اقتصاد يقوم على البساطة، والمرونة، والمباشرة، حيث يسعى الناس إلى تلبية احتياجاتهم اليومية بأقل التكاليف الممكنة.

أنماط المعيشة والاستهلاك

يتميز الفقراء بقدرتهم على إعادة تدوير الموارد واستخدامها أكثر من مرة، وشراء احتياجاتهم بأحجام صغيرة جدًا تتناسب مع دخلهم اليومي، فهم لا يشترون كيسًا كبيرًا من الأرز أو السكر، بل يقتنون ما يكفي ليوم أو يومين، كما يعتمدون على المشاركة، سواء في السكن أو المواصلات أو حتى الأدوات المنزلية، لتخفيف العبء المالي.

وسائل التنقل الشعبية

المشي لمسافات طويلة، واستخدام الدراجات الهوائية أو النارية، أو المواصلات الشعبية مثل توكتوك والميكروباص والريكشا، كلها تعكس قدرة الفقراء على إيجاد حلول عملية تتناسب مع إمكانياتهم المحدودة، هذه الوسائل رغم بساطتها، تمثل شريان الحياة اليومي لملايين الأسر، إذ تمكّنهم من التنقل للعمل أو السوق بأقل التكاليف.

الأسواق الموازية

حين يجد الفقراء أن الدخول إلى السوق الرسمي مُكلف أو معقد، فإنهم يخلقون أسواقهم الخاصة، من أسواق شعبية أسبوعية، وبسطات على الأرصفة، وباعة جائلين، أو حتى البيع من المنازل، أحيانًا تتحول هذه الأنشطة إلى ما يُعرف باقتصاد الظل أو السوق السوداء، لكنها في حقيقتها مجرد استجابة واقعية لضغوط المعيشة اليومية.

نموذج تطبيقي: المحفظة الرقمية في الصومال

في ظل الاضطرابات الاقتصادية والسياسية التي عاشها الصومال لعقود، ومع ضعف قيمة الشلن الصومالي أمام الدولار الأمريكي، برزت شركات الاتصالات لتقدم حلًا مبتكرًا عبر خدمة «EVC Plus»؛ وهي محفظة إلكترونية تتيح للمواطنين تحويل الأموال واستقبالها ودفع المشتريات عبر الهواتف المحمولة.

تحولت هذه الخدمة إلى أسلوب حياة، بحيث أصبح معظم الصوماليين يعتمدون عليها في معاملاتهم اليومية، حتى في شراء الخبز أو دفع أجرة المواصلات، لقد أثبت هذا النموذج أن اقتصاد الفقراء قادر على تبني الحلول الرقمية بسرعة إذا ما لبّت احتياجاته الأساسية، ليتحول من اقتصاد ظلٍّ بسيط إلى اقتصاد رقمي بديل يحمي الناس من هشاشة البنوك وتقلبات العملة.

دور العمل الخيري في تمكين اقتصاد الفقراء

إلى جانب دور الدولة في التنظيم والحماية، يأتي العمل الخيري والإنساني كعامل رئيس في دعم اقتصاد الفقراء، ليس فقط عبر المساعدات المباشرة، بل من خلال برامج التمكين الاقتصادي، فقد أثبتت التجارب أن توفير التمويل الصغير أو القروض الحسنة للأسر محدودة الدخل يفتح أمامها أبوابًا جديدة للعيش بكرامة.

من خلال برامج دعم المشاريع الاقتصادية متناهية الصغر، تستطيع الجمعيات الخيرية أن تساعد الأسر على إنشاء أكشاك صغيرة، وورش خياطة، وعربات طعام متنقلة، أو حتى امتلاك وسائل نقل شعبية (كالتوكتوك والدراجات النارية للأجرة)، هذه المبادرات لا تكتفي بتأمين دخل مستدام للفقراء، بل تخلق أيضًا حركة اقتصادية شعبية تساهم في تعزيز السوق المحلية وتخفيف البطالة.

بهذا المعنى، يتحول العمل الخيري من مجرد تقديم إعانات مؤقتة إلى أداة تغيير مستدامة، تنقل الفقراء من خانة المستهلكين للمساعدات إلى خانة المنتجين القادرين على إعالة أسرهم والمساهمة في دورة الاقتصاد.

الحجم العالمي للاقتصاد غير الرسمي

الأرقام تكشف حجم الظاهرة؛ إذ تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 60% من القوى العاملة عالميًا؛ أي ما يقارب ملياري إنسان، يعملون في الاقتصاد غير الرسمي، في أفريقيا تصل النسبة إلى 85.8% من إجمالي العمالة، بينما تبلغ في آسيا والمحيط الهادئ حوالي 68.2%، أما على مستوى الناتج المحلي، فيسهم هذا الاقتصاد بنحو 35% في الدول منخفضة ومتوسطة الدخل، مقارنة بـ15% فقط في الدول المتقدمة.

التحديات والفرص

رغم أنه يوفر لقمة العيش لملايين البشر، فإن اقتصاد الفقراء يواجه تحديات كبيرة، أهمها: غياب الحماية الاجتماعية، وتدني جودة السلع والخدمات، وحرمان الدولة من موارد ضريبية مهمة، في المقابل، يمثل هذا الاقتصاد فرصة حقيقية؛ إذ يتيح للفقراء المرونة والقدرة على التكيف، ويُظهر إبداعًا مجتمعيًا في مواجهة الأزمات، كما حدث في كوبا حين أصبح القطاع الخاص غير الرسمي يمثل أكثر من 55% من مبيعات التجزئة عام 2024م.

الفرص الاستثمارية في اقتصاد الفقراء

إن حاجات الفقراء ليست عبئًا كما يظن البعض، بل هي في حقيقتها فرص استثمارية تنموية يمكن أن تُسهم في تحريك عجلة الاقتصاد المحلي وبناء أسواق جديدة، فالمشاريع متناهية الصغر، وخدمات التمويل الصغير، وتطوير أدوات حياتهم اليومية كلها مسارات يمكن أن تتحول إلى روافع اقتصادية إذا أُديرت بحكمة، لكن يبقى التحدي الحقيقي هو ضمان عدم استغلال الفقراء عبر الفوائد المرهقة أو الشروط التعجيزية، بل تمكينهم من أن يكونوا شركاء حقيقيين في التنمية، مستفيدين بكرامة من ثمار جهودهم.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة