الأخلاق في زمن الخوارزميات.. مَنْ يقود مَنْ؟!

في زمن الخوارزميات، أغلق الإنسان الغربي الباب تماماً على الأخلاق لتصير مجرد سؤال نظري حبيس دوائر الفلسفة والأمنيات والروايات الأدبية، بينما يدير الإنسان حياته بغير منطق معروف سوى الرغبة وإشباعها بأي طريقة رغماً عن أي قانون.

إن كان ثمة قوانين معروفة تقاوم الرغبات الجسدية للإنسان، واختار القوم لأنفسهم العيش داخل بيئة رقمية تقودها خوارزميات تتحكم فيما نراه، وما نفكر فيه أحياناً، وما نقرره في لحظات كثيرة، تغير الإنسان هناك، وتبعه الإنسان هنا؛ تغيرت سبل المعرفة، وتغيرت الاستجابات، بينما ظلت الأخلاق المساحة التي يتصارع عليها كل شيء، وهنا يأتي السؤال وسط كل تلك الفوضى: هل ما زال الإنسان يقود التكنولوجيا، أم أصبحت الخوارزميات تقود الإنسان؟

الخوارزميات.. منطق القوة الجديدة

كثيرون يسمعون لفظة الخوارزميات دون أن يدركوا معناها، فيضعونها في دائرة أخرى غير ما تعنيه، والخوارزمية ليست كوداً معقداً فقط، بل هي طريقة اتخاذ القرار، فعلى سبيل المثال، عندما تقرر منصة ما الفيديو المناسب لك، أو الترتيب الذي تظهر به الأخبار، فهي عملياً تقول لك: هذا ما يجب أن تراه، وتلك ببساطة مفهوم الخوارزمية، هي آلية اتخاذ القرار بواسطة وسائل التواصل الحديثة، وفرض رؤيتها على المتابعين، ومع الوقت يتشكل وعيك من خلال هذا الترشيح الانتقائي.

وتشير الدراسات الحديثة إلى أن التوصية المستمرة تخلق ميولاً جديدة، وليست فقط تعكس ميولاً موجودة، فكلما شاهد المستخدم محتوى معيناً، تتمكن الخوارزمية منه، فتنتج حلقة مغلقة تجعل الإنسان أسير ما تريده الآلة؛ ولذلك، فإننا نلاحظ عمليات الأسر الجبري للبرامج والصفحات التابعة لها، مما يخالف قول الله تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد: 10)، يقول ابن كثير: «بينا له طريق الخير والشر»(4)، فماذا لو صار طريق الخير غير ظاهر للمستخدم بسبب خوارزمية لا ترى في الخير «محتوى مربحًا»؟

التحديات الأخلاقية في زمن الذكاء الاصطناعي

الخطر الأكبر في هذا العصر أن الخوارزمية قد تدفع الإنسان لاتخاذ قرارات استهلاكية أو سياسية أو معرفية دون أن يشعر نتيجة وقوعه تحت سيطرة الحالة التي تصنعها الخوارزمية، وهذا ما يتعارض مع القاعدة الشرعية «لا ضرر ولا ضرار».

وفي الخوارزمية تضيع مسؤولية الجاني، فحين يخدع الإنسان إنساناً آخر، نعرف من المخطئ ومن نحاسب، لكن ماذا في حالة الخضوع لذلك العالم الرقمي؟ من المسؤول والمبرمج والشركة والمستخدم؟ تظهر هذه المعضلة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» (صحيح البخاري)، هنا لا أحد مسؤول، والأمر فوضى، وضاعت الأخلاق مقابل الكسب بطرق غير مشروعة ولا عقاب عليها.

الأخلاق الإسلامية كإطار حاكم للتكنولوجيا

لقد خلق الله عز وجل الإنسان وسخر له الكون من حوله؛ (وسَخَّرَ لَكُم مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) (الجاثية: 13)، ومن ثم فالتكنولوجيا يجب أن تكون مسخّرة للإنسان وليس العكس، وهو ما يقع فيه الناس اليوم دون دراية، أيضاً يجب ضبط النوايا في مطلع وأثناء كل عمل؛ «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (رواه البخاري).

فأي تكنولوجيا بلا نية أخلاقية مشروع انحراف، والنية هنا تشمل المستخدم، وكذلك صانعي المحتوى والمنصات، ويضع ابن القيم قاعدة مهمة: «النظر في مآلات الأعمال من كمال العقل»(5)، فهل نظرت الشركات في مآلات خوارزمياتها؟ هل فكرت في أثرها على السلوك، والأخلاق، والأسرة؟ غالباً لا.

نحو خوارزميات أخلاقية

يقول تعالى: (ولَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ) (البقرة: 42)، فيجب أن يعرف المستخدم لماذا يقترح عليه النظام شيئاً معيناً، فالغموض يجعل الخوارزمية سلطة غير مرئية من حيث لا يدري المستخدم، وهذا هو مبدأ الشفافية.

ويقول تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) (الأنعام: 152)، فالخوارزميات في طبيعتها منحازة، تفضل محتوى على آخر، وتفضل جماعة دون أخرى، وقد تبدى ذلك واضحاً في التعامل مع حرب «طوفان الأقصى»، وظهر انحيازها للعدو المحتل، بينما تقوم بحذف المحتويات التي تخص الطرف المجاهد وصاحب الحق.

ثم هناك الكثير من المنصات التي تبني نماذج استغلال المشاعر السلبية مثل الخوف والغضب، وهذا يتنافى مع قول الله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ) (الإسراء: 70)، ومن مقتضيات الكرامة ألا يصبح الإنسان مادة للاستهلاك النفسي أو المراقبة الشاملة.

الإنسان بين القيادة والانقياد

هنا يمكننا أن نطرح جواباً للسؤال المطروح، من يقود من؟ الإجابة باختصار: ما زال الإنسان يقود، لكنه يقود بصعوبة بالغة، فالفجوة بين وعي الإنسان وأنظمة التوجيه الرقمية جعلته أقل قدرة على التحكم في مساره الأخلاقي، فإذا كانت الحال كذلك، فكيف إذن يمكنه استعادة زمام القيادة الكاملة على الأمور؟ والجواب: بالوعي، يقول تعالى: (قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ) (الأنعام: 104)، فالبصائر هي الوعي، وهي الخطوة الأولى لفهم ما تفعله الخوارزميات بنا.

كذلك نستعيد تحكمنا بالتربية الأخلاقية، وهي ما ربى عليه النبي صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام على يقظة الضمير والرقابة الداخلية، لا على الطاعة العمياء دون وعي أو بحجة المصالح والمكاسب، يقول الشاطبي: «المصالح إنما تعتبر إذا تحققت فيها مقاصد الشرع»(6).

لقد دخلت الأخلاق عصراً جديداً، لم تعد فيه الخوارزميات مجرد أدوات، وإنما شركاء خفيون في القرار، وفي تشكيل الوعي، وفي إعادة تشكيل معنى الإنسان، ومع ذلك يبقى النص القرآني إطاراً قادراً على ضبط حركة التكنولوجيا، لا بمنطق الرفض أو الخوف، بل بالتسخير والرشد.




__________________

(1) التعريفات للجرجاني (3/ 53)، وينظر: إحياء علوم الدين للغزالي، ص101.

(2) ابن عطية، المحرر الوجيز، ج3، ص211.

(3) جامع البيان، ج14، ص603.

(4) تفسير ابن كثير، ج4، ص497.

(5) إعلام الموقعين، ج2، ص195.

(6) الموافقات، ج2، ص8.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة