اقتصاديات الحرب وانهيار الدولة..

الأزمة السودانية بعيون اقتصادية

د. هبة جمال جاد

26 نوفمبر 2025

266

تمثل الأزمة السودانية التي اندلعت في أبريل 2023م إحدى أعقد الأزمات الإنسانية والسياسية في المنطقة، وقد تحولت سريعًا إلى كارثة اقتصادية شاملة طالت جميع القطاعات الإنتاجية والخدمية، ولا يمكن فهم أبعاد هذا الانهيار دون تحليل منظومة اقتصاد الحرب التي نشأت خلال الصراع، وما صاحبها من دمار واسع للبنية التحتية وكلفة إنسانية واقتصادية غير مسبوقة.

أولًا: اقتصاديات الحرب في السودان:   

يقوم اقتصاد الحرب على بنية مشوهة تتداخل فيها المصالح السياسية والعسكرية مع شبكات الربح السريع، حيث تتحول ميادين الصراع إلى مصادر تمويل بديلة تُغذي استمرار الحرب، وفي السودان برزت ملامح هذا الاقتصاد من خلال:

1- تسييل الاقتصاد والسيطرة على الأصول الحيوية: المعارك العسكرية تحولت إلى وسيلة للسيطرة على الموارد الاقتصادية الحيوية كالبنوك، والخزائن، والمصانع، ومستودعات السلع الأساسية، ومشاريع البنى التحتية، فأصبحت هذه المواقع أهدافاً عسكرية إستراتيجية لتمويل العمليات الحربية.

2- اقتصاد النهب المنظم: تقوم الأطراف المتحاربة، ولا سيما المليشيات المسلحة، بسلب ونهب الممتلكات العامة والخاصة بشكل منهجي، ويشمل ذلك نهب المصارف، وخطوط الإنتاج، والمحاصيل الزراعية، والماشية، وحتى المساعدات الإنسانية التي تدعم المدنيين المتضررين، حيث يتم تحويل هذه الممتلكات إلى تدفقات نقدية لشراء الأسلحة وولاء المرتزقة، قال الله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 188)؛ هذه الآية الكريمة تحرم أكل أموال الناس بالباطل، وهو ما يحدث تماماً في نهب الممتلكات العامة والخاصة وتمويل الحرب بها.



3- السيطرة على القطاعات الإستراتيجية:

أ- الذهب: يعد الذهب أكبر مصدر للنقد الأجنبي في السودان، وتسيطر بشكل كبير على العديد من مناجم الذهب في دارفور وغيرها المليشيات المسلحة؛ ما يمكنها من تمويل نفسها خارج القنوات الرسمية للدولة؛ وهذا ما يضعف من سلطة الجيش النظامي ويطيل أمد الحرب.

ب- الزراعة والتجارة: تدر الأراضي الزراعية الكبرى مثل مشروع الجزيرة إيرادات ضخمة (Ministry of Investments, Sudan, 2021)(1)، حيث يغطي المشروع حوالي مليون هكتار من الأراضي المروية، ومن المتوقع أن يحقق ما يصل إلى ملياري دولار سنويًا عند إعادة تأهيله.

وقد أصبحت هذه القطاعات بسبب السيطرة عليها من قبل الأطراف المتحاربة ساحات للصراع، حيث تستخدم عائداتها لتمويل الحرب بدلًا من دعم التنمية الوطنية، ونظرًا لأن السودان يشكل عمقًا إستراتيجيًا غذائيًا واقتصاديًا للعالم العربي والخليج، فإن استمرار الأزمة يترك أثرًا مباشرًا على الأمن الإقليمي؛ ما يزيد من أهمية التعامل مع الانهيار الاقتصادي الراهن.

4- ظهور اقتصاد الظل وطبقة منتفعي الحرب: تظهر شبكات اقتصادية غير قانونية تربط بين المتحاربين، والتجار، ووسطاء السلاح، وتهريب العملة، تخلق هذه الشبكات «طبقة حرب» جديدة لديها مصلحة مالية في استمرار حالة الفوضى وانهيار الدولة، حيث إن السلام سيعني نهاية مصدر ثرائهم.

ووفقًا لبيانات البنك الدولي، أدى الصراع في السودان إلى انكماش حاد في الناتج المحلي الإجمالي، حيث انكمش بحوالي 29.4% في عام 2023م، وانخفض انخفاضًا إضافيًا بنسبة 14% في عام 2024م، فيما بلغ التضخم مستويات غير مسبوقة، وأصبح السودان الشقيق يشهد واحدة من أكبر أزمات النزوح والجوع عالميًا (World Bank, 2025)(2).

جدير بالذكر أن الأزمة الاقتصادية السودانية لم تبدأ مع الحرب الأخيرة، بل جاءت الحرب لتُسرع انهيارًا كان قائمًا بالفعل.

وتشير تقارير البنك الدولي إلى أن السودان واجه قبل الحرب اختلالات هيكلية حادة، وانكماشًا اقتصاديًا متزايدًا بعد انفصال جنوب السودان وما تبعه من فقدان عائدات النفط، إضافة إلى تصاعد معدلات التضخم والاحتجاجات الشعبية الناتجة عن تدهور الأوضاع المعيشية.

وقد ساهم انتشار الاقتصاد غير الرسمي، الذي شكل نسبة كبيرة من النشاط الاقتصادي، في إضعاف قدرة الدولة على إدارة الموارد وتعزيز هشاشة الاقتصاد الوطني (World Bank, 2025).

فقد اعتمد السودان لسنوات طويلة على اقتصاد غير رسمي واسع تجاوز في بعض التقديرات نصف الناتج الاقتصادي؛ ما قلل قدرة الدولة على جمع الإيرادات، وأضعف مؤسساتها المالية والرقابية على حد سواء، هذا الانتشار الواسع لنشاطات التهريب والتجارة غير المنظمة خلق اختلالات هيكلية عميقة جعلت الاقتصاد هشًا وغير قادر على الصمود أمام أي اضطراب مفاجئ، ومع اندلاع الحرب، تمدد الاقتصاد الموازي أكثر، وازدادت الفوضى في الأسواق؛ ما سرع الانهيار وأضعف الدولة بشكل غير مسبوق.

إن الحرب لم تُنشئ الانهيار الاقتصادي، بل كشفت هشاشته المتجذرة ودفعت به إلى نقطة الانفجار، بعدما استفادت شبكات الاقتصاد غير الرسمي من الفوضى لتعميق أزمة الدولة وتوسيع نفوذها على حساب المواطنين والاقتصاد الوطني.

ثانيًا: كلفة الدمار الحالية التي يتكبدها الاقتصاد والبنية التحتية:

أدت الحرب إلى تدمير واسع النطاق شمل جميع مفاصل الدولة، وأضعف قدرتها على تقديم الخدمات الأساسية.

1- الانهيار الاقتصادي الكلي:

  • الناتج المحلي الإجمالي: انكمش الاقتصاد السوداني بشكل حاد منذ بداية الصراع المسلح، حيث توقفت معظم القطاعات الإنتاجية عن العمل (World Bank, 2025).
  • التضخم المفرط: تجاوز معدل التضخم 245% بحسب تقرير البنك الأفريقي للتنمية(3)؛ ما أدى إلى تآكل مدخرات المواطنين وجعل الجنيه السوداني العملة المحلية بلا قيمة تقريباً.
  • انهيار الصادرات: توقفت صادرات النفط والذهب والصمغ العربي تقريباً بسبب تدمير البنية التحتية والاضطرابات المسلحة؛ ما حرم البلاد من أحد أهم مصادرها من العملة الصعبة.

2- تدمير البنية التحتية الحيوية:

  • القطاع الصحي: وفق تقرير منظمة الصحة العالمية (2024م)، يقدر أن نحو 70% من المرافق الصحية في المناطق المتأثرة بالصراع المسلح لم تعد تعمل أو تعمل جزئيًا(4)، حيث تم نهب المستلزمات الطبية والأدوية؛ ما أدى إلى شلل معظم النظام الصحي.
  • القطاع التعليمي: أدى النزاع المسلح إلى تدمير وإغلاق مئات المدارس والجامعات في السودان؛ ما عرقل سير العملية التعليمية وهدد مستقبل الطلاب. 
  • الطاقة والمياه: تعرضت محطات الكهرباء ومحطات المياه للتدمير، ما تسبب بانقطاع شبه كامل للخدمات الأساسية في أغلب المدن السودانية.
  • البنية التحتية للنقل: تضررت الطرق والجسور والمطارات بشكل كبير؛ ما أدى إلى عزل مناطق كاملة وتعطيل حركة التجارة والإغاثة.

قال الله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) (الروم: 41)؛ تربط الآية الكريمة بشكل مباشر بين أفعال الناس من ظلم وعدوان وفساد؛ وبين انتشار الخراب في الأرض، وهو ما نراه في تدمير البنية التحتية للسودان.

إن استمرار الحرب يعني استمرار نزيف الاقتصاد وانهيار ما تبقى من مؤسسات الدولة، بينما يمثل وقف القتال وإعادة بناء الثقة بين مكونات المجتمع شرطًا أساسيًا لأي محاولة للإنعاش الاقتصادي وإعادة الإعمار، ويبقى السؤال الأهم: كيف يمكن للسودان أن يعيد بناء مؤسساته واقتصاده بعد هذا الدمار الواسع؟




___________________

(1) Ministry of Investments, Sudan. (2021). Sudan Investment Prospectus 2021. https://www.sudanembassyindia.org/SUDAN-Investment-Prospectus-2021.pdf.

(2) World Bank. (2025, October 14). Sudan overview. World Bank. https://www.worldbank.org/en/country/sudan/overview?utm_source=chatgpt.com.

(3) African Development Bank. (2024). Sudan Country Focus Report 2024. African Development Bank. https://vcda.afdb.org/en/system/files/report/sudan_final_2024.pdf?utm_source=chatgpt.com.

(4) World Health Organization. (2024). Sudan complex emergency health system status. https://cdn.who.int/media/docs/default-source/documents/emergencies/phsa--sudan-complex-emergency-030424.pdf?utm_source=chatgpt.com.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة