السفر عبر الزمن والنوستالجيا (1)
الأساس النظري ومفهوم الزمن الجميل
عندما نطرح
مفهوم «السفر عبر الزمن» أدبياً وفنياً، فإننا نطرح مفهوماً أقرب إلى الخيال، بل
هو الخيال العلمي في حد ذاته، فكم يشتاق البشر إلى العيش في عوالم أخرى، قاصية
عنهم، لا يمكن الوصول إليها، خاصة إذا كانت في الماضي بعيداً كان أو قريباً، أو في
المستقبل القادم، ولو بعد حين، وهذا ما يفسر الشغف الكبير بقراءة التاريخ، روايات
كان أو سرداً أدبياً أو فنوناً مرئية، لأنه يبحر بنا إلى الماضي، ذلك المجهول لنا،
والمستحيل علينا العودة إليه.
وكلما كان السرد
دقيقاً بليغاً في وصفه، عاش القارئ خيالياً وأبحر في تفاصيل المكان والبشر والزمان،
ونفس الأمر مع تخيل المستقبل في قصص الخيال العلمي وأفلامه، وإن كان الأمر في
التاريخ أقرب إلى الحقيقة والواقع، فهناك من عاشه ورآه وسجّله، أما في المستقبل
فإن الخيال هو الحكم والمصدر، وشتان بين مَن رَأى ومن تخيّل.
أينشتاين.. والسفر الافتراضي
ربما تبرر نظرية
أينشتاين علمياً مفهوم التنقل عبر الزمن، عبر مفهوم البعد الرابع للكون، وهو
الزمنية النسبية، ويرى فيه أنه من الممكن تجاوز الأبعاد الثلاثة التقليدية لما في
الكون من ماديات وأشياء وحياة وتنقلات، وهي الطول والعرض والارتفاع، إلى بُعد رابع
وهو الزمن، الذي لا يمكن رؤيته ولكننا نعيشه وندركه كحقيقة مسلمة من مسلمات الوجود.
فإذا اعتبرنا أن
هندسة الكون تعتمد على أبعاد أربعة؛ فإن حساباتها ستكون غاية في التعقيد ونتائجها
غير متوقعة، وهذا ما فعله أينشتاين في نظريته «النسبية»، فلم يكتف بإثباته نسبية
المكان، ولكنه عمم نسبية المكان على الزمان أيضاً، فطالما أننا نعيش في عالم ذي
أربعة أبعاد، وإذا كان من الممكن أن تكون الأبعاد المكانية الثلاثة نسبية، فلا بد
أن يكون الزمان (البعد الرابع) نسبياً أيضاً؛ وبالتالي، فإن الإنسان يمكن أن يبحر
زمنياً ومكانياً، ما دام المكان والزمان نسبيين؛ أي أن الشخص الذي يسافر في مركبة
فضائية متطورة بسرعة تناهز سرعة الضوء (186000 ميل في الثانية) سيمر عليه الزمن
بصورة أبطأ، من الشخص الذي يعيش على الأرض.
وعلى هذا الأساس،
فإن السفر عبر الزمن ممكن نظرياً، فلكي يسافر شخص ما إلى المستقبل ما عليه إلا
الذهاب برحلة فضائية بسرعة الضوء ثم يعود بعد عدة سنوات ليرى الأرض، وقد شاخت
عشرات السنين بينما لم يزدد عمره هو إلا سنوات قليلة.
هذه الفرضية من
المنظور العقلي الدنيوي لا يمكن تحقيقها بالعودة إلى الماضي؛ لأن من أهم حقائق
الزمن أنه يتقدم، ولا يرجع، ولكن يمكن أن يصبح المكان نسبياً في رؤيتنا وعلاقتنا
به عبر المسارعة أو الإبطاء في حركة الزمن فيه، وهذا متحقق في وسائل السفر
والاتصال والتواصل.
وقد حضر أدب
الخيال العلمي كما رأينا في فكرة رواية آلة الزمن (The Time Machine) للمؤلف هربرت ويلز في العام 1895م، حيث تقدّم برهاناً على ما
نريد طرحه؛ بأن العلم يمكنه أن يساهم ولو خيالياً في السفر عبر الزمن.
تدور أحداث
الرواية حول مخترع شاب غريب الأطوار، توفيت حبيبته في حادثة، فقرر أن يصنع -وفاءً
لها- آلة عجيبة، يسافر بها إلى الماضي؛ آملاً في إعادة الحياة لها، بتغيير الأحداث
التي أفضت لموتها، لكنه سرعان ما اكتشف أن تغيير القضاء والقدر مهمة مستحيلة،
فيقرر عوضاً عن ذلك الانطلاق في رحلة إلى المستقبل، ليعزز الفرضية أن المخترعات
العلمية يمكنها الإبحار بنا زمنياً.
«النوستالجيا».. والزمن الجميل
لو أردنا النظر
إلى «النوستالجيا» أو الحنين إلى الماضي في ضوء مفهوم السفر عبر الزمن، سنجد أنها
رغبة دفينة عند كل إنسان، ولكنها تتسع لتشمل رغبات خاصة تختلف من فرد لآخر، فهناك
من يرغب في حنين إلى ماض خاص به في طفولته أو شبابه، أو في فترات معينة في حياته،
وغالباً ما تكون ذات ذكريات جميلة له، وتحققت فيها ذاته، وهناك من يحنّ إلى أزمنة
أخرى، قرأ أو سمع عنها أو حكيت له.
والشاهد في
الأمر كله أن الإنسان يحنّ لما يحب، ويتخيله عالماً مثالياً له، وهذا يفسر مسمى «الزمن
الجميل» الذي يحلو للبعض أن يطلقه على حقب بعينها في حياته أو في أزمنة عاشها
آخرون وحكوا عنها، ووصفوها بالروعة والمثالية.
لذا، يمكن القول:
إن مفهوم الزمن الجميل نسبي متغير من شخص إلى آخر، ونفس الأمر مع مفهوم الحنين إلى
الماضي، فكلٌ منا يحن إلى ماض يخصه، ويشتاق إليه، ويرغب في العيش فيه.
وتكمن إشكالية
أخرى، في التصور المثالي نفسه للأزمنة المتخيلة، فكل منا يتخيل أن زمناً ما أحبه،
فهو عالم مثالي خالٍ من العيوب، الناس عاشت فيه نعيماً وسعادة، ولم يعرفوا سبلاً
للشقاء والتعاسة، مع أن المسلم به أن أي عالم بشري، فيه الصالح والطالح، الشقاء
والسعادة، والأمر يختلف من فرد لآخر، بل من طبقة أو فئة لأخرى، فأهل الثراء
والسلطان زمنهم الجميل هو زمن غناهم وامتلاكهم السلطة، وهو في الوقت نفسه، زمن فيه
تعاسة لفئات أخرى عانت فقراً وتهميشاً، فالمسألة متفاوتة في الأحاسيس والنفوس بين
شرائح المجتمع.
إلى هنا نكون قد
أسسنا نظرياً لمفهومي «السفر عبر الزمن» و«النوستالجيا»، وفي الجزء الثاني، سنطبق
هذه المفاهيم في قراءة تحليلية لفيلم «منتصف الليل في باريس».