الأسرة العربية في ميزان الأمم المتحدة

في الوقت الذي ترفع فيه الأمم المتحدة ووكالاتها
المختلفة، شعارات براقة عن الأسرة في يومها العالمي الذي يوافق 15 مايو كل عام، تمارس
هذه المنظمات أبشع أشكال الازدواجية ضد الأسرة العربية، إذ تفرض عليها مفاهيم غريبة
عن قيمها الدينية والاجتماعية، بينما تتجاهل إبادتها الجماعية تحت نيران العدوان «الإسرائيلي»
والأمريكي.
ومنذ تأسيسها عام 1945م، لم تتوقف منظمة الأمم
المتحدة عن تحويل حقوق الإنسان إلى سلاحٍ لاستهداف الهوية العربية؛ حيث تهدد الأنظمة
بالعقوبات إذا تجرأت على رفض المساواة المطلقة أو حقوق المثليين، لكنها تغض الطرف عن
قتل ملايين الأسر العربية في غزة واليمن وسورية، وكأن الحق في الحياة الذي كفلته الشرائع
السماوية قبل المواثيق الدولية صار امتيازاً يمنحه الغرب لأتباعه، ويحرم منه كل من
يقف في وجه مشروعه الاستعماري.
الغريب أن الأمم المتحدة، التي تتبنى خطاباً
حاداً ضد الأنظمة العربية بحجة حماية المرأة، تصمت صمت القبور عن نساء فلسطينيات يقتلن
بأطفالهن تحت القصف «الإسرائيلي»، وعن أمهات يمنيات يموتن جوعاً بسبب الحصار؛ فهل باتت
حقوق المرأة في عرف المنظمات الدولية تعني إجبار العرب على تقبل الإجهاض والمثلية،
بينما يسمح لـ«إسرائيل» أن تذبح الأمهات الفلسطينيات دون حساب!
الأسرة العربية اليوم ليست ضحية الحروب فحسب،
بل ضحية خطاب دولي منافق، يحارب قيمها باسم التقدم، ويبرر تدميرها باسم الديمقراطية؛
فبينما تدان دولنا العربية لأنها تحمي أسرها من التغريب الثقافي، تكافئ «إسرائيل» القاتل
الأكبر للأسر العربية بدعم سياسي وعسكري غير محدود!
والسؤال الذي يفرض نفسه الآن: أي معنىً لـ«اليوم
العالمي للأسرة» إذا كان الاحتفال به يعني خطباً فارغة، بينما تباد أسر عربية كل يوم؟!
وأي مصداقية تبقى لمنظمة تدعي الحياد وهي تتواطأ مع جلادي الشعوب؟!
معايير غربية
حولت الأمم المتحدة ومنظماتها حقوق الإنسان
إلى قوالب جاهزة مستوحاة من الفلسفة الليبرالية الغربية، دون مراعاة الخصوصية الدينية
أو الثقافية لدولنا العربية والإسلامية؛ ففي قضية حقوق المرأة تتصدر الحقوق الإنجابية
أولويات الخطاب الدولي، حيث توصي منظمة الصحة العالمية (إحدى وكالات الأمم المتحدة)
بإباحة الإجهاض دون قيود، وتصنف القيود الدينية أو القانونية عليه كـانتهاك لحقوق المرأة.
وفي عام 2023م، أطلق صندوق الأمم المتحدة
للسكان حملةً تمويليةً بقيمة 1.4 مليار دولار لدعم الصحة الجنسية والإنجابية في الدول
النامية، وهو مصطلح يستخدم غالباً كباب خلفي لفرض سياسات تتعارض مع ثقافة المجتمعات
المحافظة.
أما في مجال حقوق المثليين، فقد أظهر تقرير
المفوضية السامية لحقوق الإنسان عام 2022م أن 73% من تقارير الأمم المتحدة حول العالم
العربي ربطت بين التقدم الحضاري وتبني حقوق «مجتمع الميم»، متجاهلة أن دساتير معظم
الدول العربية تجرم المثلية الجنسية استنادًا إلى الشريعة الإسلامية؛ بل وصل الأمر
إلى حد توصية بعض التقارير الأممية بإلغاء مواد تجرم التحريض على المثلية بحجة حرية
التعبير.
وواجهت هذه الدعوات والمبادرات الأممية رفضاً
واسعاً من المؤسسات الدينية والاجتماعية العربية؛ ففي عام 2021م، أدان مجلس الأزهر
العالمي، أبرز المؤسسات الإسلامية السنية، إعلان إسطنبول التابع للأمم المتحدة، واصفاً
إياه بأنه يُشرع الفجور تحت مسمى حقوق المرأة، وذلك لاشتماله على بنود تلزم الدول بتقنين
زواج المسلمة من غير المسلم، وإلغاء ولاية الذكر في الأسرة.
كما حذر اتحاد علماء المسلمين من أن المساواة
المطلقة بين الجنسين –كما تصورها المنظمات الدولية– تهدد كيان الأسرة عبر إلغاء أدوارها
التكاملية التي أقرها الإسلام.
تناقض وازدواجية
ويكمن التناقض الأكبر في سكوت هذه المنظمات
عن انتهاكات حقوق المرأة الحقيقية في العالم العربي، وتلك الجرائم الضخمة التي تتعرض
لها الأسر العربية في ساحات الحروب في غزة والسودان واليمن وسورية وليبيا، فعلى الرغم
من نشر بعض الإحصاءات المؤسفة (مثل بيانات منظمات الأمم المتحدة التي تحصي أعداد الضحايا
من النساء والأطفال في غزة)، فإن صوت هذه المنظمات يخفت أمام مساءلة مرتكبي هذه الجرائم
أو المطالبة بمعاقبتهم.
وأبرز مثال على ذلك العدوان «الإسرائيلي»
على غزة الذي أودى بحياة قرابة 13 ألف مدني فلسطيني، ثلثهم من النساء والأطفال، فمنذ
بدء العدوان، سجلت التقارير أكثر من 12 ألف مجزرة استهدفت الأسر الفلسطينية، منها نحو
2200 أسرة أُبيدت بالكامل، وما يزيد على 5 آلاف أسرة لم ينج منها سوى ناجٍ واحد، إلى
جانب آلاف العائلات الأخرى التي فقدت أكثر من فرد في هذه الهجمات، ورغم هذه الخسائر
الفادحة، تغيب غالباً في تقارير المنظمات الدولية إدانة واضحة أو إجراءات قانونية جادة
لمحاسبة المسؤولين.
ومن اللافت أيضًا اللغة الحادة والمنهج الانتقائي
الذي تستعمله مؤسسات الأمم المتحدة تجاه الأنظمة العربية والإسلامية مقارنة بتجاهلها
تجاه الاحتلال «الإسرائيلي» أو التدخلات الأجنبية؛ فقد شهدنا إدانات علنية للأمم المتحدة
وأوروبا ضد دول عربية عندما يتعلق الأمر بحقوق المرأة حسب المعايير الغربية.
وكثيرًا ما هددت الدوائر الغربية بفرض عقوبات
سياسية أو خفض مساعدات إذا لم تلغ قوانين مثل «الولاية»، أو لم توسع الحريات النسائية،
بيد أن العشرات من التقارير الواردة من فلسطين وسورية واليمن حول قتل النساء واستهداف
العائلات، التي توصف بالإبادة في بعض الجهات الحقوقية، تمر دون تهديد ملموس أو عقوبات
ضد الفاعلين (كـ«إسرائيل» وغيرها من دول العدوان الأجنبية).
وتظهر هذه الازدواجية أن الحقوق في الخطاب
الدولي ليست مبادئ عالمية، بل أدوات لفرض الهيمنة الثقافية، حيث تغيب الأولويات الحقيقية
للأسرة العربية؛ (كالحق في الحياة والاستقرار والأمان) لصالح أولويات غربية تخدم أجندات
سياسية.
هيمنة ثقافية
وبدلًا من أن يدافع المجتمع الدولي عن حق
العائلة العربية في الوجود والحياة، تتوجه جهود منظمات الأمم المتحدة نحو تغيير المفاهيم
الثقافية والدينية للأسرة العربية، إذ تنظم ورش عمل ومؤتمرات للدعوة إلى قضايا منها
المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة في كل شيء أو حقوق المثليين، مما يراها كثيرون
تدخلاً في خصوصيات المجتمعات المحافظة.
وفي اليوم العالمي للأسرة نفسه، قد لا نجد
في خطاب المنظمة إشارة واضحة لحق الأسر العربية في البقاء تحت حماية القانون والدفاع
عنها ضد العدوان، بينما تتكرر النداءات لتغيير أعرافها الاجتماعية، وهذا التوجه يؤكد
وبشدة أن الأمم المتحدة أصبحت مجرد وكيلة لتصدير الأيديولوجيا الغربية تحت ستار حقوق
الإنسان.
ويبقى أن الأسر العربية تراهن على مجتمع دولي
يحفظ لها حقها في الحياة والحماية قبل أي شيء آخر، لا أن يستبدل ثقافتها أو يتغاضى
عن جرائم تزهق أرواحها، ومن ثم، يدعو الكثيرون إلى موقف عربي واضح: التأكيد على أولوية
الدفاع عن الأسرة ككيان وتقدير قيمها الثقافية، والمطالبة بمحاسبة كل من ينتهك أمنها،
دون نفاق أو اختصار الحقوق في مفاهيم مغتربة، فالإخلاص للمبادئ العالمية يستلزم توفير
العدل والمساواة فعليًا، لا تسليمهما فقط إلى خطاب يراوح بين التنديد المفرط لمجرد
انتهاكات فردية للقيم الغربية والصمت المطبق أمام جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكب
من قبل الولايات المتحدة الأمريكية أو «إسرائيل» أو أياً من الدول الأوروبية ضد العرب
ودول العالم الثالث.