الأسرة اليمنية وصناعة النهضة
لا ريب أن التعليم والتربية يشكلان حجر الأساس لبناء نهضة الأمم، فهما السبيل لتنمية مهارات أفرادها وقدراتهم، وصقل شخصياتهم، وجعلهم أعضاء فاعلين في مسيرة التقدم، فمنذ فجر الحضارة، أدركت الأمم المتقدمة أهمية التعليم والتربية، وجعلتها على رأس أولوياتها، فحرصت على توفير أفضل المنظومات التعليمية لأبنائها، وعملت على تنمية قدراتهم وإبداعاتهم.
وفي الأزمنة السابقة، كان مجتمعنا العربي والإسلامي يتحدث عن التربية والتعليم بفخر واعتزاز، وكان ذلك يستحق الثناء، حيث كانت المدرسة والجامعة والمناهج تحمل نوعًا من التميز والتفرد، وهو ما أثبت أن بناء مستقبل الأجيال يتطلب اهتمامًا كبيرًا بالتعليم والتربية، وذلك من خلال تضافر الجهود على مستوى الأسرة والمجتمع والدولة.
الأسرة والتعليم
أدركت المجتمعات البشرية مبكراً أهمية التعليم منذ قرون عديدة، باعتباره القوة المحركة للمجتمع، وأساس نهضته وتقدمه اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً؛ وقد تأكدت هذه الأهمية بعد أن صار المجتمع يشهد تطوراً متلاحقاً بفضل المعرفة العلمية، ومن هنا أصبح الدور التربوي يتعدى أهمية المدرسة إلى كافة المؤسسات الأخرى بما فيها الأسرة.
فقد انتقل هذا الهاجس وفي وقتنا الراهن إلى الكثير من الأسر في دولنا العربية والإسلامية، فصارت تحاول أن تجتهد من أجل أن تتنامى تدابيرها التربوية مع تطلعات المجتمع من أجل رفع مستويات الأطفال في جميع الميادين؛ وبالطبع فإن حرص الأولياء على تحسين المردود العلمي لأبنائهم وزيادة تحصيلهم الدراسي، علاوة على العمل من أجل تحقيق التفوق الدراسي للأبناء يصب مباشرة ضمن أهداف المجتمع ومراميه.
وفي حالة اليمن، تعرضت البلاد لتحديات شديدة بسبب النزاع المستمر، مما أثر بشكل كبير على دور الأسر وقدرتها على تأمين التعليم الجيد لأبنائها، حيث تواجه الأسر اليمنية العديد من التحديات التي تتركز بشكل أساسي على الظروف الصعبة التي يمر بها البلد بسبب الحرب والأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتردية، حيث يشير المختصون التربويون إلى أن الحرب والصراعات، ونقص التمويل، وتدمير البنية التحتية للمدارس والمؤسسات التعليمية، وانقطاع الخدمات الأساسية، وتفاقم معدلات الفقر؛ تمثل أكبر التحديات التي تواجه عملية التعليم والأسر اليمنية.
ويعكس واقع التعليم في اليمن تحديات كبيرة تواجه البلاد، حيث تشير الإحصائيات والأرقام إلى أن نسبة الأمية القرائية في اليمن مرتفعة، حيث تبلغ حوالي 70% في الأرياف، و38% في المدن، وبما أن سكان الريف يمثلون نسبة كبيرة من السكان، فإن هذا يعني أن الكثير من السكان يواجهون صعوبات في القراءة والكتابة.
وفي ظل هذه الأزمات الصعبة، برزت «الفصول المنزلية» كرمزٍ للإرادة القوية والإصرار على التعليم، ففي القرى التي تعرضت للدمار والخسائر الفادحة جراء الحرب، لجأت بعض الأسر إلى تحويل فناء بيوتها إلى فصول دراسية، لتكون بمثابة مركز للتعلم والتثقيف لأبنائها، وهو ما عكس روح الصمود والتكاتف في مواجهة الصعوبات.
الأسرة والقيم
تمثل الأسرة المسرح الرئيس الذي ينشأ فيه الفرد، ويكتسب فيه منظومة القيم التي توجه سلوكه وتشكل هويته، فكلما اتسمت العلاقات الأسرية بالتسامح والمحبة؛ انعكس ذلك إيجابًا على شخصية الطفل، ورسم معالم حياته المستقبلية.
ولا شك أن مسؤولية تنشئة جيل قادر على صناعة نهضة حقيقية لا تقع على عاتق الأسرة فقط، بل هي مسؤولية جماعية تشارك فيها جميع مكونات المجتمع.
وتعد منظومة القيم التي ترسخها الأسرة في مكنونات النشء من أهم المرتكزات الأساسية في النهضة الاجتماعية، فعن طريقها تتعزز شخصية الإنسان ويحقق توازنه النفسي والاجتماعي، ولن يتأتى للإنسان بلوغ ذلك إلا بما يحيط به من بيئة صالحة تتسم بالمحبة والاحترام، تتعزز فيها القيم السامية والنبيلة.
والأسرة بمستواها الأعلى، ومشمولها الأوسع الذي لا يقف عند حد الوالدين فقط في المجتمع اليمني، تعد ركيزة أساسية لا غنى للفرد عنها، سواء أكان ذكراً أم أنثى، وحاجة الفرد إليها تزداد يوماً عن يوم في ظل المتغيرات الجارية على مستوى العالم، فالفرد يلوذ بأسرته في حالة تلاطم الأمواج، وانتشار الظواهر والسلبيات التي تعج بها المجتمعات.
الأسرة والتربية
وتُضفي القيم أهمية خاصة في عملية التنشئة، خاصة مع تطور التكنولوجيا وسيطرة وسائل الإعلام على الحياة المدنية، مما يُضعف من دور المؤسسات التقليدية في نقل القيم والمعتقدات، وهو ما يجعل الأسرة مكلفة بمهمة نقل القيم والتربية السلوكية لأبنائها للحفاظ على الهوية والثقافة الاجتماعية للمجتمع.
وفي ظل التحديات التي تواجهنا في المجتمعات العربية والإسلامية، التي تُعرف بالفترة الحرجة المميزة بالاهتزاز الأخلاقي والقيمي، فإن الأسر عليها عبء كبير في تعزيز القيم الإسلامية ونقلها إلى الأجيال الناشئة، والتمسك بها في كل جوانب الحياة.
ولا شك أن الأسرة اليمنية تدرك أن للقيم أهميتها الخطيرة في حياة الفرد والمجتمع على حد سواء، فعلى مستوى الفرد هناك حاجة ملحة إلى نظام قيمي يتعامل المرء من خلاله مع شتى صور الحياة اليومية؛ ليعمل هذا النظام كموجه لسلوك الفرد.
أما فيما يخص المجتمع، فتعمل القيم على تنظيم نشاطات وعلاقات أي مجتمع، فإذا ما تضاربت هذه القيم فسرعان ما يحدث الصراع القيمي والاجتماعي الذي يدفع بالتنظيم الاجتماعي إلى التفكك.
وهنا تأتي أهمية التربية الأسرية في غرس القيم في نفوس الأبناء؛ فتربية الأبناء مسؤولية جماعية تقع على عاتق جميع أفراد الأسرة، بدءًا من الوالدين وانتهاءً بالأخوة والأخوات، ويكون ذلك من خلال خلق بيئة أسرية إيجابية تسودها المحبة والاحترام والتواصل الفعال، وتعزيز قيم الصدق والأمانة والعدل والمسؤولية والتعاون.
ويمكن للأسرة أن تغرس القيم في نفوس الأبناء من خلال الأساليب التالية:
- المثال: فالأبناء يتعلمون من سلوكيات آبائهم أكثر من تعليماتهم؛ لذلك، يجب على الوالدين أن يكونوا قدوة حسنة لأبنائهم في سلوكهم وأخلاقهم.
- الحوار: يجب على الوالدين أن يحاوروا أبناءهم حول القيم المختلفة، وأن يشرحوا لهم أهميتها في حياتهم.
- المشاركة: يجب على الوالدين أن يشركوا أبناءهم في الأنشطة التي تعزز القيم، مثل العمل التطوعي أو مساعدة الآخرين.
- التقوية الإيجابية: يجب على الوالدين أن يعززوا سلوكيات أبنائهم الإيجابية من خلال الثناء عليهم ومكافئتهم.
- التأديب: يجب على الوالدين أن يؤدبوا أبناءهم على سلوكياتهم الخاطئة بطريقة إيجابية وبناءة.
وبالرغم من أهمية دور الأسرة في غرس القيم في نفوس الأبناء، فإن هناك أدوارًا أخرى تقوم بها جهات مختصة في هذا المجال، مثل المدرسة والمجتمع، فالمدرسة مسؤولة عن تعليم القيم الأكاديمية والأخلاقية للطلاب، بينما يمارس المجتمع دورًا في تعزيز القيم الاجتماعية والثقافية.
في النهاية، يجب أن نعزز من قيمنا الإسلامية الأصيلة في نفوس الناشئة، والعمل على استخدام كل الوسائل التعليمية والإعلامية والتوعوية في الحث على ذلك، وأن نطبق هذه القيم قولاً وعملاً كأساس رئيس للنهضة.