من الأسس النفسية والوجدانية في عملية التربية النبوية

د. عادل هندي

27 أغسطس 2025

111

الأساس الأول: التصريح بالمحبة قولا وسلوكًا وإشعار الأبناء بأهميتهم لدى المُرَبِّي:

إنَّ بذل المحبة والتصـريح بها للأولاد فيه تقوية لأواصرِ الصِّلة والقرب معهم، وسبيل لزيادة الثقة والإحساس بالأمان، وقد كان النبي صلى لله عليه وسلم يحمل في صدره عاطفةً صادقةً نحو الأبناء، وفي أكثر من موقف تربوي في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم نجده ينوّع أساليبه التربوية في إعلان محبته للغلمان والصبيان، ومن ذلك ما يأتي:

1- التصـريح بالمحبة لمن يحبّ من الغلمان: كما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، حيث يحكي لنا بنفسه قائلا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بِيَدِي يَوْمًا، ثُمَّ قَالَ: «يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ» فَقَالَ مُعَاذٌ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا وَاللَّهِ أُحِبُّكَ، فَقَالَ: «أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ»(1).

وفي رواية، تُظهر عِظم المحبة الوالدية، من حديث البخاري عن البراء أنه قال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَالحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى عَاتِقِهِ، يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ»(2)،

2- الأمر المباشر بالرحمة مع الأبناء: فعن عبدالرحمن بن الحرث عِن عمِروِ بن شُعَيب عِن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منَّا من لم يَرْحَمْ صغيرَنا، ويعْرِفْ حَقَّ كبيرِنا»(3).

3- امتداح الأبناء وإشعارهم بأهميتهم: ففي صحيح البخاري من حديث ابْنِ أَبِي نُعْمٍ، قَالَ: كُنْتُ شَاهِدًا لابْنِ عُمَرَ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ دَمِ البَعُوضِ، فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ العِرَاقِ، قَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا، يَسْأَلُنِي عَنْ دَمِ البَعُوضِ، وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا»(4).

4- التحذير من السبّ أو العبوس أو الضـرب؛ فكل ذلك مما نهى عنه الشّـرع الحنيف: فالناظر في هدْي النبيّ صلى الله عليه وسلم في تعامله مع أنس بن مالك وهو خادمه يرى عجبًا وفوائد تربوية كثيرة، فقد قال أنس: «خَدَمْتُ رَسُولَ اللهِ تِسْعَ سِنِينَ، فَمَا أَعْلَمُهُ قَالَ لِي قَطُّ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ وَلا عَابَ عَلَيَّ شَيْئًا قَطُّ»(5)، والأب مُطالَبٌ بأن يكون صاحب مشاعر وعاطفة تُترجم إلى سلوكيات وممارسات تعبّر عن الحبّ تجاه الأبناء والبنات، مثل التقبيل والعناق وإلقاء السلام على الأبناء.

الأساس الثاني: منح الثقة للأولاد:

إنَّ من بين أهمّ أُسس التربية النبويّة منح الأطفال الثقة بأنفسهم؛ فإنّ إشعار الأبناء بالثقة سبيل تأمين لهم في الحاضر والمستقبل:

1- النبي صلى الله عليه وسلم يستشير الصبي في أمر سقيا شيوخ القوم؛ زرعًا للثقة بنفسه، وإشعارًا بأهميته، فقد روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أُتِيَ بِشَـرَابٍ، فَشَـرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخُ، فَقَالَ لِلْغُلاَمِ: «أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلاَءِ؟»، فَقَالَ الغُلاَمُ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا، قَالَ: فَتَلَّهُ(6) رَسُولُ اللَّهِ فِي يَدِهِ.

2- مرافقة الصبيان في المجالس ومرافقتهم في الجلسات الاجتماعية خاصّة، وقد رأينا موقف عمر مع ولده عبدالله يوم سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم سؤالاً، ففي الحديث عن عبدالله بن عمر حين سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه عن شبيه المسلم من أنواع الشجر، فوقع في نفسه أنها النخلة، وقال ابن عمر: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُمَرَ، قَالَ: لأَنْ تَكُونَ قُلْتَ: هِيَ النَّخْلَةُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا(7).

وقد استفاد الصالحون من أدب النبوّة في اصطحاب الصبيان إلى مجالس العلم، والاستبشار بأخذهم العلم، فقد روى الخطيب البغدادي عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، أَنَّ الْحَسَنَ البصـري قَالَ: «قَدِّمُوا إِلَيْنَا أَحْدَاثَكُمْ، فَإِنَّهُمْ أَفْرَغُ قُلُوبًا، وَأَحْفَظُ لِمَا سَمِعُوا، فَمَنْ أَرَادَ اللهَ أَنْ يُتِمَّهُ لَهُ أَتَمَّهُ»(8).

3- الدعاء للصبيّ: ويدلل على تلك الوسيلة فعل ابن عباس يوم وضع الماء للرسول صلى الله عليه وسلم ليتوضّأ؛ ففي الحديث عند البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الخَلاَءَ، فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا قَالَ: «مَنْ وَضَعَ هَذَا؟»، فَأُخْبِرَ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»(9).

4- تولية الأبناء مسؤولياتٍ تناسب طاقاتهم ومهاراتهم وكفاءاتهم: ففي ذلك أكبر الأثر على نفسية الأطفال، والناظر إلى سيرة النبيّ صلى الله عليه وسلم وهديه الشـريف في توظيف الشباب في الوظائف في زمنه، يرى أنّه كلّف سيدنا أسامة بن زيد -وهو صبي صغير وكان صاحب مهارة عسكرية فائقة- قيادة الجند في بعثه له إلى الروم قبل وفاته.

كما أمر معاذاً بن جبل أن يؤمّ المسلمين في الصلاة.

وأرسل مصعب -الشاب صاحب الخبرة في الدعوة- إلى المدينة المنورة معلمًا ومؤدِّبًا.

وها زيد بن ثابت الأنصاري يكلفه بتعلّم لغة أجنبية فأجادها وأنجز تعلمها بمهارة ونبوغ فائقين، حتى كلّفه بما هو أشرف، وهو كتابة الوحي الشريف.


اقرأ أيضاً:




_____________________

(1) المستدرك على الصحيحين للحاكم: كتاب الطهارة، أَمَّا حَدِيثُ عبدالرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ (1010)، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.

(2) صحيح البخاري: كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بَابُ مَنَاقِبِ الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، (3749).

(3) مسند الإمام أحمد بن حنبل: أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (ت 241هـ)، تحقيق: أحمد محمد شاكر.

(4) صحيح البخاري: كتاب الأدب، بَابُ رَحْمَةِ الوَلَدِ وَتَقْبِيلِهِ وَمُعَانَقَتِهِ (5994).

(5) قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر: ج1، ص195 (مَرْجِعٌ سَابِقٌ): التَلّ هو الصَّب، فَاسْتَعَارَهُ للإلْقاء، يُقَالُ تَلَّ يَتُلُّ إِذَا صَبَّ، وتَلَّ يَتِلُّ إِذَا سَقَط، ومعنى تلّه رسول الله في يده، أي: ألقاه.

(6) صحيح البخاري: كتاب المظالم والغصب، باب إِذَا أَذِنَ لَهُ أَوْ أَحَلَّهُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ كَمْ هُوَ (2451).

(7) صحيح مسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار، بَابُ مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ النَّخْلَةِ (2811).

(8) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: ج1، ص311 (مَرْجِعٌ سَابِقٌ).

(9) أخرجه البخاري: كتاب الوضوء، بَابُ وَضْعِ المَاءِ عِنْدَ الخَلاَءِ، حديث رقم (143).

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة