الأقليات بين المشاركة والاستقواء


كانت ولم تزل قضية الأقليات في الدولة الإسلامية واحدة من القضايا التي يظن المعادون أو المناوئون للمشروع الإسلامي أنها لغم أو قنبلة موقوتة بمقدورهم تفجيرها في أي وقت كمحاولة لإفشال أية جهود تسعى لإقامة حكم يستند للمرجعية الإسلامية فضلا عن رغبة هؤلاء الملحة في تشويه أو حتى الانتقاص من القيم الإسلامية إذ ما أن يتم طرح القضية للنقاش – انطلاقا من نوايا غير سوية - حتى يحتدم الجدل الذي يمكن أن يتصاعد ليصل إلى استقطاب مجتمعي حاد يستنزف الكثير من الطاقات ويتفرع عنه نقاشات أقل ما توصف بأنها سفسطائية.

مفهوم الأقليات

يعتبر الكثيرون أن الأقلية هي مجموعة إثنية أو دينية أو لغوية يكون عددها أقلّ من عدد بقية السكان ومن ثم فإنها يمكن أن تكون مجموعة متميزة على المستوى الديني أو الثقافي أو العرقي أو العنصري، فيما يرى آخرون أن هناك مجموعات يمكن أن توصف بالأقلية بحكم وضعها الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي المهمش بفعل سيطرة الأغلبية، ومن ذلك مثلا المرأة والتي تعتبر في بعض المجتمعات أقلية مع أنها ربما تكون الأكثر عددا وهو ما يدعم التعريف الذي ينظر للأقلية باعتبارها أية مجموعة ترى بأنها تتلقى معاملة غير متساوية مع باقي المواطنين بسبب صفات جسدية أو ثقافية أو اجتماعية خاصة بها.

نظرة الإسلام للأقليات

لا يمكن لكل من يلتزم الموضوعية أن ينكر الحقوق التي منحها الإسلام لغير المسلمين في الدولة الإسلامية رغم كونهم أقلية تختلف عقيدتهم عن عقيدة الأغلبية من المسلمين، مع ما لهذا الاختلاف العقدي من أهمية تعلو كل اختلاف آخر، وهو ما يؤشر إلى أن الإسلام استند إلى قاعدة رئيسية تتعلق بعدم نفي الآخر، بل ومنحه كل الحق في الحياة وفي التعبير عن ذاته في إطار القواعد العامة التي تحترم ما عليه الأغلبية تفاديا لأي اصطدام وحماية لأمن هذه الأقلية.

كما تلزم الموضوعية أيضا الإقرار بأن الإسلام كان سباقا في بلورة هذه النظرة فعلى مدار التاريخ السابق على البعثة النبوية المحمدية عانت الأقليات المختلفة من الاضطهاد والتهميش بل وحروب الإبادة في الكثير من الأحيان، فيما لم تسلم الأقليات أيضا من المعاناة في العصر الحديث رغم ما طرأ على البشرية من تقدم حضاري وفكري، إذ بقيت مسألة الأقليات في الكثير من البلدان غير الإسلامية قضية حساسة للغاية تثير العديد من الأزمات، فانحصر الحديث عن حقوق الأقليات في الغالب على الطرح النظري الفلسفي فحسب، فيما بات الواقع شاهدا على أن ثمة بون شاسع بين هذه الأطروحات النظرية وبين ما تعيشه الأقليات يدلل على ذلك ما شهده المسلمون في أوروبا الشرقية وما تعرض له الهنود الحمر في أمريكا  وغير ذلك.

وكانت الكثير من الأدلة القرآنية والنبوية صريحة في منح هذه الأقليات كل الحقوق ففيما يخص حق الاعتقاد قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} البقرة: 256 فيما جاءت العديد من الأحاديث التي تحرم المساس بهم وتصون لهم حياتهم ومن ذلك قول الرسول الكريم: "من قتل مُعاهَدًا لم يَرَحْ رائحةَ الجنَّةِ" (البخاري) بل إنه حرم ظلمهم فقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ حَقًّا، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ؛ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (أبوداود والبيهقي).

وبالطبع إذ كانت هذه هي نظرة الإسلام للأقليات الدينية فإن الأمر ينسحب على الأقليات الأخرى العرقية أو الثقافية أو غيرها وهو ما جسده الحديث النبوي الشريف: "لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى" وهو نفس المبدأ الذي يسري على الرجل والمرأة.

الأقليات والمشاركة

كان طبيعيا أن يترتب على تلك النظرة للأقليات أن يكون لهم مشاركة حقيقية في الدولة الإسلامية وفق حق المواطنة التي أعطاها الإسلام لهذه الأقليات كما جاءت على سبيل المثال في وثيقة المدينة أو في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لنصارى المدائن وفارس.

كان ما سبق دافعا لأن يرى العديد من الفقهاء في العصر القديم كالحنفية وبعض المالكية أو حتى في العصر الحديث - أبرزهم الدكتور يوسف القرضاوي والدكتور عبد الكريم زيدان - جواز مشاركتهم في الحياة العامة والسياسية ما داموا قد أقروا بشرعية السلطة فضلا عن القيم الإسلامية ومن ثم فلهم أن يدلوا بآرائهم حول تنظيم أحوالهم وتحديد مطالبهم المتعلقة بمصالحهم الخاصة فيما لهم أيضا حق المنافسة في الانتخابات والإدلاء بأصواتهم في اختيار ممثلي رأس السلطة التنفيذية أو البرلمانية.

ويقيس أصحاب هذا الرأي على ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم من استشارته للمنافقين رغم علمه بنفاقهم كما حدث مثلا يوم أحد، فلا مانع إذن من استشارة أهل الكتاب الذين يرى الكثير من الفقهاء جواز الاستعانة بهم في الحرب، وعليه فمن باب أولى أن يُستعان بهم في الاستشارة المدنية المتعلقة بمصالح العامة من المواطنين أو الرعية.

وعمليا فإن شواهد الاستعانة بالأقليات العرقية في الدولة الإسلامية أكثر من أن تحصى في التاريخ، فرغم أن الدولة الإسلامية الأموية أو العباسية كان يهيمن عليها العرب كونهم أصحاب الفتوحات وحاملو لواء الدعوة في قرونها الأولى، إلا أن هذا لم يحرم الدولة الإسلامية من تولية العديد من الشخصيات المسلمة وحتى غير المسلمة من الأعراق الأخرى التي انضوت تحت راية الإسلام فكان للفرس وللأتراك وللافارقة وللأكراد وللبرابرة وغيرهم دور كبير في الدولة الإسلامية سياسيا وعسكريا واقتصاديا فضلا عن أن بعض الدول أسسها مسلمون من غير العرب.

الأقليات والاستقواء

وفق التصور السابق فإن الأقليات بمجملها جزء من النسيج المجتمعي الإسلامي التي لابد أن تستشعر دورها حتى توثق علاقتها بهذا المجتمع ولا تشعر بالانعزال أو حتى استعلاء الأغلبية عليها، إلا أنها في مقابل ذلك مطالبة أيضا بأن لا تكون لبنة هدم لهذا المجتمع، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم مثلا عند حديثه عن أهل الكتاب باعتبارهم أقلية في المجتمع المسلم فيقول الله عز وجل: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْـمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 9].

فقد تضمنت الآية السابقة المبدأ الذي يلتزم به كل من المسلمين وغير المسلمين لإقامة علاقة بينهما يكون عمادها البر والقسط من جانب المسلمين فيما يكون السلام والمشاركة بإيجابية في المجتمع من قبل غير المسلمين، وعليه فإن أي سلوك "أقلوي" يعمل على تعكير صفو المجتمع الإسلامي هو في حد ذاته انقلابا على هذا العقد المجتمعي.

ولعل ما تسعى إليه بعض الأقليات لتعطيل إرادة الأغلبية هو نموذج واضح إذ يتذرع البعض بحقوق الأقليات ليطيح بحقوق الأغلبية مستقويا في هذا الصدد بالقوى الأجنبية التي يكون أغلبها في حالة كراهية أو عداء مع الدولة الإسلامية وقيمها وهو بالطبع فرصة سانحة لهذه القوى للتدخل وممارسة الصغوط على الرغم من أن ذلك في حد ذاته يتعارض مع قيم الديمقراطية التي ما فتأت تروج لها هذه القوى.
 


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة