الأمة.. والمنع من الظلم
تظل أي أمة بخير ما لم يفشُ فيها الظلم، وقهر بعضهم لبعض، وإن ضريبة فشوِّ الظلم في الأمم والمجتمعات غالية تمس وتنتقص وتنال من الأموال والدماء والأعراض.
والأمم ليستقيم حالها تحتاج إلى قادة حازمين؛ فضعف القادة يؤثر بالسلب على الأمة، ويجعلها مطمعًا بين غيرها من الأمم، وهناك شعرة دقيقة بين الحزم والاستبداد؛ فالحزم مع العدل قرينان، وهما لا يصدران إلا من حاكم قوي، ومن الأمثلة على هؤلاء شخصيتا الصِّدِّيق، والفاروق، رضي الله عنهما، أما الاستبداد فهو قرين الظلم، وقد يصدران من ضعيف جبان رعديد، أو من فاتك جبار لا يرى حرمة للدماء أو الأعراض أو الدماء، والأمثلة عبر التاريخ كثيرة، والقائمة طويلة.
وإذا خاف حاكم من شعبه، فإنه يكون بين خيارين؛ إما أن يخضع لهم، ويفعل لهم ما يرغبون فيه، وما يطيِّب خاطرهم ويرضيهم، وإما أن يستعين عليهم بقوة داخلية -ولاؤها له وصنعها على عينه- أو خارجية تكون معينة له على قهرهم وإخضاعهم.
وهناك أمم يكثر تعاقب المستبدين عليها؛ لصفات فيها غالبة تجعلها تتحمل وتصبر فيطول عمر دولة الاستبداد فيها، حتى تأتي لحظة تتبدل فيها الأوضاع؛ حيث لم يعد للشعب طاقة على الصبر؛ فتنفجر الأوضاع في وجه المستبد، وحينها لا يستطيع المواجهة أو المقاومة، فيسقط المستبد.
وترجع الأمور سريعًا كسابق عهدها أو أشد إذا سقط المستبد، ولم يسقط نظامه المتجذر، فيعيد النظام تدوير نفسه ويعود من جديد بقناع جديد، لكن الأساليب هي هي لم تتغير، ولم تتبدل.
والأمة التي تقوم في وجه المستبد وتقع في الغفلة وتأخذها نشوة النصر عليه، ولا تعمل على اجتثاث جذور نظامه المترنح، فإن النظام يعود أصلب عودًا، وأكثر فتكًا، وأشد انتقامًا.
وإذا وثقت الأمة في حاكمها الجديد ولم تضع آليات للمحاسبة له ولنظامه فإنه قد ينحرف عن المسار؛ إذ إن السلطة والقوة تعملان عملهما في النفوس، فتجد المبررات والذرائع للاستبداد، باسم معرفة مصالح الأمة أكثر منها، فلا يعود إليها في القرارات المصيرية، أو يعمل على التخلص من المعارضين والمناوئين له ولحكمه؛ فيخلع عليهم -من خلال إعلامه وعلماء السوء- أشنع الأوصاف من العمالة والخيانة والإفساد في الدولة.
والأصل أن وجود الأمة في أي معادلة أو طرف أو جناح فإنها تحسمها لصالحه؛ فلا تنجح أي ثورة أو انقلاب أو حركة تصحيحية إذا لم تجد لها الظهير الشعبي الحقيقي أو المزيف؛ فالقوة الغاشمة التي تنحِّي دور الأمة قد تُظهر في بعض الأحيان أنها استعانت بطرف من الأمة على طرف آخر لتنال الشرعية الشعبية، التي سرعان ما تنقلب عليها، ولا تضعها في حسابها، ولا ترى اعتبارًا إلا لشرعيتها المسلحة.
وخروج الأمة من معادلة التغيير قد يوقع الفتن والملاحم، وإني أرى أن ما ذهب إليه علماء أهل السُّنة من عدم الخروج على الحكام والتحريج الشديد في تلك المسألة راجع إلى الضرائب الشديدة التي دفعتها الأمة من دمائها، فعندما كانت النخبة هي التي تتولى عملية التغيير دون ظهير شعبي معتبر، فإنها كانت تذهب إلى مجزرة؛ مثلما حدث مع أبي عبدالله الحسين بن علي، رضي الله عنهما.
وعندما تكرر الخروج ووقوع المجازر في كبار الأمة من الساسة والثوار والعلماء، مثل: زيد بن علي، وسعيد بن جبير.. إلخ، فإن الأولى ألا يتعجل أحد في التغيير طالما أنه لم يستند إلى الأمة، وحتى تصل الحالة الثورية وتتعمق في طبقات الأمة وأطيافها، وألا تكون محدودة منحصرة في نخبة ترغب في التغيير ولا تملك أدواته وتتعجل المواجهة، فعندئذ تكون الرغبة في التغيير وبالاً على الأمة ونخبتها أكثر من كونها طريقًا للعدل والحرية والشورى.
فالأمة الواعية اليقظة ضامنة وحائل ضد وقوع الظلم، وهذا ما امتدحه سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه في الروم، حينما ذكر بعض خصالهم فقال: «إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالاً أَرْبَعًا: إِنَّهُمْ لأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ، وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ، وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ: وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ»(1).
وتلك الصفة الخامسة من منعهم لظلم ملوكهم تختفي أحيانًا، وتظهر أكثر؛ لأنها ما زالت مشاهدة ليومنا هذا، وإن كانت اختفيت في بعض الأزمان؛ فقد قال أبو العباس القرطبي: «ووصف عمرو لهم بما وصفهم به من تلك الأوصاف الجميلة، إنما كانت غالبة على الروم الذين أدرك هو زمانهم، وأما ما في الوجود منهم اليوم فهم أنجس الخليقة وأركسهم، وهم موصوفون بنقيض تلك الأوصاف»(2).
وعلى العموم، فإن الملوك الظلمة المستبدة يستعبدون شعوبهم وأممهم، والأمم الحرة لا تقبل هذا الاستعباد، حتى لو وصل الأمر للصدام بينها وبين حكَّامها ليستقيموا على الجادة، وهذا كان طبعًا متأصلاً في العرب الأوائل؛ فقد أتى عمرُ مشربةَ بني حارثة فوجد محمد بن مسلمة فقال: يا محمد، كيف تراني؟ قال: أراك كما أحب، وكما يحب من يحب لك الخير، قويًّا على جمع المال، عفيفًا عنه، عدلاً في قسمه، ولو ملت عدلناك كما يعدل السهم في الثقاف، قال: الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا ملت عدلوني(3).
فهذا الكلام لم يتم اختباره في ذلك العهد الراشدي، لكنه كان قاعدة مرعية يعمل الجميع على عدم الوقوع فيها، أو الاقتراب منها؛ فالحاكم يعمل دون عسف أو ظلم، وإن حدث تعدٍّ فإنه يكون في أضيق الحدود، ويكون من باب التأديب لأفراد من الرعية، وليس أمرًا عامًّا يطال الجميع، ولا يسلم منه إلا القليل.
والأمة كانت من الحرية والإباء ما يجعل خنوعها للظلم ورضاها به أمرًا مستحيلاً، والأمة لمنع الظلم والأخذ على يد الظلمة يلزمها الوعي واليقظة والاتحاد ونبذ الفرقة والاختلاف؛ إذ إن أسعد أوقات المستبد عندما يرى الشقاق والخلاف قائمًا بين الأمة.
والاستبداد ليس قدرًا مقدورًا على الأمم والشعوب، لكن طول بقائه مرتبط بمدى قبول الأمم له، وعدم مقاومته له، والتهاون في منعه.
_____________________
(1) جزء من حديث أخرجه مسلم في الفتن وأشراط الساعة، باب: تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ، ح(2898).
(2) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (7/ 236) باختصار.
(3) سير أعلام النبلاء (2/ 372).