الإلحاد الجديد.. صناعة الشك بوسائل حديثة
لم يكن الإلحاد
بوصفه إنكارًا لوجود الله ظاهرة جديدة في تاريخ الفكر الإنساني، إذ عُرف في صور
متعددة عبر الحضارات المختلفة، غير أنه ظل في الغالب محصورًا في نطاق النخب
الفكرية والأقليات، إلا أن العقود الأخيرة شهدت بروز ما يُعرف بـ«الإلحاد الجديد»،
وهو تيار فكري اتخذ من الوسائط الرقمية والإعلام الحديث أداة رئيسية للانتشار
والتأثير، خاصة في المجتمعات العربية والإسلامية.
وتنبع أهمية
دراسة هذه الظاهرة من خطورتها على المنظومة العقدية والفكرية، ومن قدرتها على
استقطاب فئات شبابية واسعة، مستفيدة من ضعف الوعي الديني، والاضطرابات النفسية
والاجتماعية، والانبهار بالعلم والتكنولوجيا، فضلًا عن القصور الواضح في الخطاب
الإسلامي المواكب للتحديات.
أولًا: مفهوم الإلحاد والإلحاد الجديد:
1- الإلحاد: لا
تتضمن معظم المصادر تعريفًا لغويًا مباشرًا للإلحاد، غير أنها ركزت على تعريفه
الاصطلاحي بوصفه إنكار وجود الله أو عدم الإيمان بأي قوة إلهية.
2- الإلحاد
الجديد: يشير إلى موجة معاصرة من الإلحاد تتميز باستخدامها المكثف للإعلام الرقمي،
واعتمادها على الخطاب العلمي والفلسفي، وتوظيفها أدوات التأثير البصري والدرامي،
مع تركيز خاص على نقد الأديان، ولا سيما الإسلام، بأسلوب ساخر أو استفزازي.
ثانيًا: الأسباب المؤدية إلى الإلحاد في العالم العربي:
تشير الدراسات
التحليلية إلى أن الإلحاد في العالم العربي ليس نتيجة عامل واحد، بل هو نتاج تداخل
معقد بين عوامل فكرية ونفسية، من أبرزها:
1- الانبهار
بالثورة العلمية والتكنولوجية، مما أدى إلى اعتقاد بعض الأفراد بأن المادة قادرة
على تفسير الوجود تفسيرًا مكتفيًا بذاته.
2- الانتشار
الواسع للأفكار عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وما يصاحبه من تلاقح غير منضبط
للآراء والمعتقدات.
3- الضعف العقدي
والاستسلام لوساوس الشيطان، في ظل غياب التحصين الإيماني.
4- تشويه صورة
الإسلام بسبب ممارسات الجماعات المتطرفة، مما أدى إلى نفور بعض الشباب من الدين
ذاته.
5- الرغبة في
التحرر من القيود الأخلاقية والتشريعية، حيث يُتخذ الإلحاد مبررًا للانفلات
السلوكي.
6- المبالغة في
تعظيم العقل وإقصاء الوحي بوصفه مصدرًا للمعرفة.
7- الأزمات
النفسية والشعور بالظلم أو الخذلان، وما يترتب عليها من إسقاطات عقدية خاطئة.
8- التأمل في
الكوارث والمصائب دون فهم الحكمة الإلهية.
9- الاغترار
بكثرة أعداد الملحدين ظاهريًا، واختلاف الأديان، ما يولد الشك والاضطراب.
ثالثًا: روّاد الإلحاد الجديد وآثاره الفكرية:
برز الإلحاد
الجديد عالميًا من خلال أربعة مفكرين عُرفوا بـ«الفرسان الأربعة»، وهم:
1- ريتشارد
دوكينز: وهو مؤلف كتاب «وهم الإله»، صدر هذا الكتاب عام 2006م، ويُعد من أعظم
الأعمال التي عُرضت حول الإلحاد.
2- سام هاريس:
وهو مؤلف كتاب «نهاية الإيمان».
3- دانيال
دينيت.
4- كريستوفر
هيتشنز: وهو مؤلف كتاب «الله ليس عظيماً» الذي صدر عام 2007م.
تجاوز تأثير كتب
هؤلاء الأباطرة الأربعة النشر المكتوب، إذ انتقلت أفكار الإلحاد الجديد إلى وسائل
أخرى مثل الإذاعات والأفلام الوثائقية والسينمائية، خاصة تلك الموجهة للأطفال،
وكذلك المواقع على شبكة الإنترنت؛ ما جعل الفكر الإلحادي الجديد أكثر تأثيرًا على
المستوى العالمي (قورشة، 2021).
رابعًا: آليات انتشار الإلحاد الجديد عبر الإنترنت:
يعتمد الإلحاد
الجديد في العالم العربي على جملة من الآليات الاتصالية، أبرزها:
1- استغلال
منصات التواصل الرئيسة: تُعد منصات مثل «يوتيوب» و«فيسبوك» من المواقع الأساسية
والأكثر تأثيرًا في نشر هذا الفكر في العالم العربي، مستغلة طبيعتها الواسعة
الانتشار وتأثيرها الكبير على الشباب.
2- الاعتماد على
الشخصيات المؤثرة: يقوم بعض الأشخاص المؤثرين في هذا المجال (منهم عرب وغير عرب)
بتقديم محتوى إلحادي يروج لكتب ومؤلفات تدعم الفكر الإلحادي الجديد.
3- الإنتاج
المرئي والاحترافي: تقوم بعض القنوات الإلحادية بإنتاج محتوى مرئي احترافي ودرامي،
على سبيل المثال، يقوم البعض بإنتاج فيديوهات (كليبات) مصورة عن الإسلام بطريقة
احترافية تعتمد على طرح الفكرة عبر سيناريو وقصة أو مشاهد تمثيلية ورسوم متحركة.
هذا النوع من الإنتاج يتطلب موارد مالية ضخمة.
4- تطويع
الموضوعات العلمية والفلسفية: يتم التركيز بشكل خاص على قضايا العلوم الطبيعية
والتطور والمنطق لتقديم الشكوك حول الدين. يتم ذلك أحيانًا من خلال استخدام الحجج
العلمية والفلسفية السطحية أو تضخيم الثغرات في نظرية التطور.
5- الاستفزاز
والهجوم المباشر: تتميز بعض المواقع الإلحادية بالهجوم الساخر على الأديان، وخاصة
الإسلام، والسخرية من المقدسات، وغالبًا ما يعلن الداعون للإلحاد في هذه القنوات
عن تبرؤهم من الإسلام ومهاجمة المؤسسات الدينية.
6- بث الإيحاء
بالكثرة: تحرص هذه القنوات على إعطاء انطباع بأن الملحدين كُثر ويزداد عددهم في
العالم العربي، وذلك عبر استقطاب كل من يتفاعل معهم بكونه ملحدًا لإعطاء إيحاء
بالتكثيف.
7- المحتوى
التوعوي/التثقيفي: بعض القنوات تنشر مقاطع توعوية وتثقيفية (كالمقاطع الوثائقية
والحوارية) التي تركز على الحجج العقلية والمنطقية والفلسفية لتشكيل الفكر
الإلحادي.
باختصار، يتشكل
الفكر الإلحادي الجديد عبر الإنترنت ليس فقط بتبني الأفكار، ولكن باستخدام تكتيكات
إعلامية قوية وموارد إنتاجية كبيرة، والتركيز على نقاط الضعف المجتمعية والجهل
بالدين، مع تغليف الأفكار بالمنطقية والجاذبية المرئية لتوسيع قاعدته.
خامسًا: سبل التصدي للإلحاد الجديد:
للتصدي لظاهرة
الإلحاد، وخاصة الإلحاد الجديد المنتشر عبر الإنترنت، يجب تبني عدة سُبل واقتراحات
تتناول القضايا المنهجية والمحتوى والدعم الإعلامي، وهي كما يلي:
أ- تطوير المنهجية والخطاب:
1- معالجة
الأسباب الحقيقية للإلحاد: يجب أن تركز جهود التصدي على معالجة الأسباب الحقيقية
التي تدفع الشباب للإلحاد، سواء كانت أسبابًا نفسية، أو اجتماعية، أو ضعفًا في
المرجعية الدينية، أو أسباباً علمية وفلسفية، ويجب تطوير برامج تثقيفية وشرعية
لمعالجة هذه الأسباب.
2- تخصيص الخطاب
لكل فئة: يجب ملاحظة أن الملحدين ينقسمون إلى فئات (مثل الملحدين بسبب أزمة نفسية
أو اجتماعية، والملحدين الفكريين)، ولذا فإن لكل نمط خطاباً يختلف عن النمط الآخر.
3- الموازنة بين
الرد العقلي والعلوم التطبيقية: ينبغي للمواقع المخصصة تفنيد النظريات العلمية
التي يستغلها الملحدون لإنكار وجود الخالق، مثل نظريات النشأة ونظرية التطور،
بدلاً من تجنب الخوض في مناقشة النظريات الحديثة في العلوم الطبيعية والفيزيائية.
4- التأسيس على
الحقائق العلمية والواقعية: يجب على الردود أن تسعى إلى توضيح القيمة العلمية
والحقيقية الصحيحة، وأن تبني براهينها على العلوم الطبيعية والتطبيقية.
5- التركيز على
القضايا الإيجابية: يجب أن يركز الخطاب الإسلامي على طرح الأفكار الإيجابية
والبراهين التي تربط الدين بالكون والطبيعة، وألا يقتصر على مجرد الرد على الشبهات
الإلحادية.
ب- تعزيز الانتشار الإعلامي ومواكبة العصر:
1- مواجهة مشكلة
عدم الانتشار: تعاني المواقع المتخصصة في الرد على الإلحاد من مشكلة عدم الانتشار
وعدم الترويج لمحتواها، لذا يجب العمل على تجاوز هذه المشكلة.
2- استخدام
الأساليب الجذابة والمؤثرة: يجب تبني أساليب إعلامية قوية ومؤثرة في طرح الأفكار
الإيجابية، وعدم إهمال الأساليب الجذابة التي يستخدمها دعاة الإلحاد، والتي تتضمن
السيناريوهات والقصص والإنتاج الدرامي الاحترافي.
3- دعم الإنفاق
والإنتاج: يجب زيادة حجم الإنفاق المالي والدعم للمواقع والقنوات المتخصصة في الرد
على الإلحاد لتمكينها من إنتاج محتوى احترافي وموسع.
4- تبسيط
المحتوى للشباب: يجب العمل على تبسيط المعلومات وتحليلها للشباب من خلال مقاطع
فيديو قصيرة، واستخدام الكتب والنشرات بدلاً من الاقتصار على المقالات الطويلة.
5- الاستفادة من
المؤثرين: يجب العمل على زيادة أعداد الدعاة الذين يتمتعون بـمستويات عالية من
الإتقان والمهارة في طرح الموضوعات، خاصة في العلوم الطبيعية.
جـ- تحسين محتوى المواقع المعنية بالرد على الشبهات العقائدية:
1- دحض أساليب
التضليل الإلحادي: يجب التركيز على فضح أساليب الكذب والتليس التي يتبعها
الملحدون، وإظهار أنهم غالباً ما يدسون السم بالدسم عند طرح شبهاتهم.
2- التركيز على
المصادر الموثوقة: يجب أن تعتمد المواقع المعنية بالرد على الشبهات العقائدية على
الروابط والمصادر الموثوقة، وألا تطرح الرأي الفردي فقط، بل يجب توثيق المحتوى
الذي يُقدم للرد.
3- الرد على
قضايا العصر: يجب على هذه المواقع التركيز على دحض الشبهات المتعلقة بـتفسيرات
نشأة الكون والتطور، والمفاهيم الإلحادية الحديثة التي تحاول ربط الحياة بالأسباب
المادية البحتة. (الجندي، 2015م).
سادساً: التحديات التي تواجه جهود المواجهة:
تواجه عملية
التصدّي للفكر الإلحادي، وخاصة الإلحاد الجديد المنتشر عبر الإنترنت ووسائل
التواصل الاجتماعي، عدة إشكاليات وتحديات رئيسة، يركز عليها الباحثون في محاولاتهم
لتقييم جهود الرد (قورشة، 2021):
أ- مشكلة الانتشار والترويج وقلة الدعم:
1- على الرغم من
وجود مواقع متخصصة وقوية تناولت كافة أفكار الفكر الإلحادي، فإنها تعاني من مشكلة
عدم الانتشار وعدم الترويج لمحتواها.
2- كما أن
المواقع والقنوات المتخصصة في الرد على الإلحاد تعاني من ضعف حجم الإنفاق والدعم
المالي، مما يحد من قدرتها على إنتاج المحتوى ونشره على نطاق واسع.
ب- تحديات المنهج والمحتوى العميق:
1- صعوبة الفصل
في القضايا العلمية: يواجه المتصدون للإلحاد تحديًا في تفنيد النظريات العلمية
التي يستغلها الملحدون لإنكار وجود الخالق، مثل نظريات النشأة، ونظرية التطور، مما
يجعل من الصعب الفصل بين الحق والباطل فيما يعرض من نظريات علمية جديدة.
2- التركيز على
الجانب الفلسفي البحت: بعض المواقع المتصدية للرد تركز على التكثيف من الطرح
الفلسفي والعقلي، لكنها تتجنب الخوض في مناقشة النظريات الحديثة في العلوم
الطبيعية والفيزيائية، أو قد تفتقر إلى الأساليب العميقة التي توازن بين الرد
العقلي والمنطقي والبراهين التوليدية.
3- ضعف البراهين
التطبيقية: غالبية المواقع المتخصصة في الرد لا تتبع أساليب قوية في الرد على
الفكر الإلحادي، خاصة فيما يتعلق بالبراهين التي تنطلق من العلوم الطبيعية
والتطبيقية.
جـ- تحديات اختلاف أنماط الملحدين:
1- يواجه الرد
على الإلحاد تحديًا في تنوع الأسباب والدوافع الحقيقية للإلحاد لدى الشباب، والتي
تنقسم إلى فئات مختلفة (مثل الملحدين بدافع الأزمة النفسية أو الاجتماعية، أو
الإلحاد الفكري)، مما يستلزم استراتيجية خطاب متنوعة لكل فئة.
2- إن الملحدين
الذين يعتنقون الإلحاد بسبب الأسباب الداخلية (مثل أزمة الثقة بالله أو الاضطرابات
النفسية) يحتاجون إلى معالجة تختلف عن معالجة الذين يتبنون الإلحاد بسبب الأسباب
الخارجية (مثل ضعف المرجعية الدينية أو الأسباب العلمية والفلسفية)، ويُعد أصعب
تحدٍ في هذا المجال هو ضرورة معالجة الأسباب الحقيقية للإلحاد، والتي تحتاج إلى
برامج تثقيفية وشرعية.
د- تحديات الجذب الإعلامي:
تعاني جهود
الرد من عدم مواكبة الأساليب الإعلامية القوية التي يستخدمها دعاة الإلحاد الجديد،
التي تعتمد على الإنتاج الدرامي والسيناريو والاحترافية، وبالتالي، يُعد ضعف حجم
الإنتاج وعدم توظيف الأساليب الإعلامية الجاذبة والمؤثرة في طرح الأفكار الإيجابية
تحديًا كبيرًا أمام مواقع الرد الإسلامي. (باستثناء بعض المواقع التي تتبنى أساليب
مثل طرح الفكرة عبر سيناريو أو قصة) (العواجي، 2019).
إن مواجهة
الإلحاد الجديد تتطلب إستراتيجية شاملة تجمع بين العمق العلمي والاحتراف الإعلامي؛
حيث إن التحدي الذي يواجه المتصدين للإلحاد بكونهم خبراء محترفين ينتجون دواء عالي
الجودة (ردود علمية قوية)، لكنهم يفتقرون إلى قنوات توزيع قوية وميزانية تسويق
ضخمة، بينما ينتشر السم المغلّف بشكل جذاب (الفكر الإلحادي) بسرعة فائقة بسبب
ضخامة موارده الإعلامية وقدرته على الوصول إلى الجمهور الأوسع.
___________________
1- قورشة، أمجد
(2021)، الإلحاد في العالم العربي والرد عليه من خلال مواقع الإنترنت ووسائل
التواصل الاجتماعي: دراسة تحليلية. مجلة الدراسات الإسلامية الأردنية، 17(1)، مقال
رقم 3.
2- الجندي، عبد
الله (2015). ظاهرة الإلحاد المعاصر: الأسباب وسبل المواجهة. القاهرة: دار السلام.
3- العواجي،
غالب بن علي (2019)، الإلحاد: أسبابه، مخاطره، وسبل المواجهة، الرياض.