الاجتهادات الفقهية المعاصرة بشأن الأقليات غير المسلمة

د. فاطمة حافظ

28 يناير 2025

5548

شغلت قضية الأقليات غير المسلمة حيزاً كبيراً من الأطروحات الثقافية العربية المعاصرة، وخصوصاً بعد ثورات «الربيع العربي»، حيث تصاعدت الادعاءات التي تسم المشروع الإسلامي بإنكار الآخر وطمس هويته الدينية لصالح الهوية الإسلامية، وكذلك محاولة بعث وإحياء نظام الذمة التاريخي، وهذه الادعاءات تغض الطرف عن أن المجتمع الإسلامي غلب عليه عبر تاريخه -باستثناءات محدودة- مراعاة الآخر واحترام حقوقه، وتغض الطرف أيضاً عن المحاولات الجارية لتطوير البنية الفقهية التي تتصل بالآخر غير المسلم من جانب الفقهاء المعاصرين لتجريد الأحكام الفقهية من الرؤى التاريخية والآراء الذاتية التي التبست بها. 

ومن خلال هذه السطور، سنعرض لآراء بعضهم بشأن العيش المشترك مع الآخر.

يقول الشيخ عبد الكريم زيدان: إن المجتمع الإسلامي يقوم على أساس العقيدة الإسلامية، لكنه ليس منغلقاً على نفسه، وإنما هو مجتمع مفتوح لغير المسلمين؛ لأنه ليس من لوازم اعتناق الإسلام رفض العيش المشترك مع غير المسلمين، ولذلك كان ولا يزال في مقدور غير المسلم الذي يرفض الإسلام ديناً أن يعيش مع المسلمين في مجتمعهم ويصير عضواً فيه إذا رغب في ذلك، وأعلن ولاءه لهذا المجتمع وخضوعه إلى نظامه.

والقاعدة العامة في حقوق غير المسلمين هي أنهم في هذه الحقوق والواجبات كالمسلمين، إلا في استثناءات قليلة، حتى شاع بين فقهاء المسلمين القول المشهور: «لهم ما لنا وعليهم ما علينا»، والاستثناءات المحدودة التي ترد على هذه القاعدة مردها أن بعض الحقوق والواجبات يشترط لثبوتها العقيدة الإسلامية لا جنسية الدولة.

ومصدر الحقوق والواجبات لغير المسلمين كما يلاحظ الشيخ زيدان هو الشريعة الإسلامية، وليس مصدرها دستور أي دولة؛ ما يعني أنها لا تتأثر مطلقاً بسوء معاملة الأقليات المسلمة في الدول غير الإسلامية، فلا يجوز لدار الإسلام الإساءة للأقليات بحجة الأخذ بقاعدة المعاملة بالمثل، وكون الشريعة مصدر الحقوق يعتبر ضمانة أكيدة من أن يعبث بها أي حاكم أو مشرع.

ولغير المسلمين حقوق كثيرة، وأهمها حق التمتع بالحريات الشخصية، ويندرج تحتها حريتهم في التنقل وحرية الإقامة في أي مكان، وحرية العقيدة؛ وفي هذه المسألة تحديداً يذهب الشيخ إلى جواز «إحداث الكنائس والمعابد الأخرى في أمصار المسلمين؛ لأن الإسلام يقر أهل الذمة على عقائدهم، ومن لوازم هذا الإقرار السماح لهم بإنشاء معابدهم إلا إذا وجد مانع من ذلك» (أحكام الذميين والمستأمنين، ص 98).

وأما ما يخص إظهار شعائرهم الدينية، فقد رجح جوازها متعللاً بأن ذهاب الفقهاء إلى القول بمنع الذميين من إظهار شعائرهم خارج كنائسهم مبناه مراعاة المصلحة العامة للدولة الإسلامية آنذاك؛ لئلا يحدث من إظهارها شيء من الفتنة والاضطراب، فليس الأمر إذن منصباً على ذات الشعائر، وعلى هذا يرى أن «لولي الأمر في الوقت الحاضر أن يسمح بإظهار شعائرهم الدينية في أمصار المسلمين إذا أمن الفتنة ولم ير مانعاً من هذا الإظهار ولا ضرراً يترتب عليه» (أحكام الذميين والمستأمنين، ص99-100).

ولغير المسلمين أيضاً حقوق سياسية، فلهم التجنس بجنسية الدولة الإسلامية ولا تسقط عنهم إلا إذا ما ظهر ما ينقضها كمعاداة الدولة والتآمر مع أعدائها، ولهم حق تولي الوظائف العامة، وفي هذه المسألة يرجح الشيخ زيدان أن تولي الوظائف العامة ليس حقاً، وإنما هو تكليف من الدولة لمن كان أهلاً له، وواجب يقوم به من عهد به إليه، مصداقاً لحديث: «إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله أو واحداً حرص عليه»، ويستدل منه أنه لو كانت التولية حقاً للفرد على الدولة لما منعها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن صاحب الحق لا يمنع عن حقه لو طلبه.

ويؤسس الشيخ على ذلك عدم جواز تولية غير المسلم بعض الوظائف العامة، ويخص منها رئاسة الجمهورية، مستنداً إلى أنها ليست حقاً لهم، وإنما تكليف، وأن للدولة أن تشترط بعض الشروط في بعض الوظائف ذات الطبيعة الخاصة، لكن هذا لا يعني عدم جواز توليتهم المناصب العامة؛ لأن الكتاب والسُّنة يدلان على ذلك.

ورغم ذلك، فإن لهم حقوقاً سياسية مثل حق الانتخاب، ويدخل فيه انتخاب رئيس الجمهورية، ويعلل ذلك بأن «رئاسة الجمهورية في الوقت الحاضر ليست لها صبغة دينية كما كانت لها في السابق، فليست هي إذن الخلافة التي يتحدث عنها الفقهاء، وإن بقي لها شيء من معانيها» (أحكام الذميين والمستأمنين، ص84).

وما ذهب إليه د. زيدان في مسألة الحقوق السياسية وجواز تولية غير المسلم الوظائف العامة صار أساساً مقبولاً؛ إذ نجد له صدى لدى مؤسسات الإفتاء، حيث رجحت دار الإفتاء المصرية في فتوى لها جواز تولية غير المسلم منصب القضاء، مستندة إلى أن القاضي في الفقه له مواصفات معينة، وطبيعة عمله وصلاحياته تختلف عنها في قاضي الدولة الحديثة في أمور؛ منها الولاية الشرعية التي تجعل حكمه نافذًا إذا حكم بأي مذهب فقهي معتبر، أما في الدولة الحديثة فالأمر يختلف؛ حيث تتعدد السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وتتكامل فيما بينها، ويحكمها القانون الملزم للقاضي، ولا يشترط في القاضي أن يكون مجتهدًا يحكم بما يراه أرجح في نظره من المذاهب بقدر ما تشترط فيه فهم القانون والقدرة على تنزيله على الوقائع والقضايا. (فتوى رقم 5064).

ويبدو أن الاجتهادات لم تتوقف عند هذا الحد، إذ جوز بعض الدارسين للشريعة -وإن لم يكونوا فقهاء- تولية غير المسلم للدولة الإسلامية، ومن هؤلاء المفكر طارق البشري، حيث يـرى أن آليات الحكم والإدارة في الدولة العصـــرية أصبحت أكثر تعقيداً بحيث لم تعد صلاحيات المسؤول بالاتساع الذي كانت عليه في الماضي، فوزير التنفيذ الذي تحـدّث عنه الماوردي وأجاز تولي غير المسلمين لمنصبه كان يملك من الصلاحيات أكثر مما يملك رئيس الـوزراء في الــوقت الحاضر، إضافة إلـى أن القـرار أصبح الآن يمر بقنوات عدة ومؤسسات الأمر الذي تقلص فيه دور الفـرد إلى حد كبير، بحيث لم يعد يختلف الأمـر فيه باختلاف ديانة المسؤول.

لكن هذا الرأي يظل مهما كانت قيمة صاحبه مفتقداً للأساس الشرعي، ولذلك يذهب جل الفقهاء المجتهدون كالقرضاوي إلى عدم التولية لافتقاد الدليل الشرعي من جهة، ولمخالفته النصوص القانونية، بل والقواعد الديمقراطية التي تقدس مفهوم الأغلبية من جهة أخرى.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة