الاحتفاء بالمرأة.. والأجر الأخروي

إذا كانت لكل
فلسفة أولويات ومدارات اهتمام مختلفة، نابعة بشكل أساسي من مضمون الأفكار التي
نظمتها تلك الفلسفة، فإنه يمكننا القول بكل ثقة: إن الدار الآخرة هي الركيزة
الأساسية للفلسفة الإسلامية وهي مركز الثقل فيها.
ومهما كانت
أهمية هذه الحياة الدنيا فهي تلك الأهمية التي اكتسبتها بناء على إنها مزرعة
الآخرة، وإنها دار الاختبارات؛ أي إنها الجسر الذي يربط الإنسان بحياته الحقيقية
في الآخرة.
لقد جاءت
التشريعات في الإسلام، لا لتحدد حدود الحلال والحرام فحسب، وإنما لتيسير هذه
الحياة الدنيا بوضع الضوابط المتماشية مع فطرة البشر، كي يستطيعوا العيش بسلام
نفسي، ويكونوا قادرين على إدارة حياتهم على الأرض.
التشريع
الإسلامي
هذه هي عظمة
التشريع الإسلامي، في كونه يمنح الإنسان الأدوات اللازمة له لعيش حياة طيبة؛ (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ
أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) (النحل: 97)،
وبالتالي يستطيع الإنسان أن يعيش حياة طيبة في هذه الدنيا تكون مشروع الأساس
للحياة الطيبة في الآخرة.
والركيزة التي
يرتكز عليها هذا المقال هي ركيزة «ذكر أو أنثى»، هذه التسوية المطلقة المستخدم
معها أداة العطف «أو» بحيث يقع الحكم وهو الحياة الطيبة لمن عمل صالحاً على سبيل
التسوية المطلقة بين الجنس البشري كله سواء كان ذكراً أو أنثى، وذلك كما ذكر
القرآن الكريم في موضع آخر؛ لأن (بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ) (آل عمران: 195)، وهي قضية معرفية عادلة، ولكنها كانت بحاجة إلى نص واضح
وصريح حتى لا يلتبس الأمر تحت أي ضغط أو في ظل أي ظروف تاريخية أو اجتماعية قد
تقهر جزءاً من هذا النسيج البشري وتجعله يشعره بالدونية، أو أنه في درجة إنسانية
أقل، ويساء وقتها فهم التشريعات والأدوات التي جاءت لتحقيق العدالة والسلام
الاجتماعي، باعتبار أن بعضاً منها لا يتطابق مع أطروحة المساواة المطلقة.
صور
المساواة
في هذا السياق،
يمكن النظر إلى صورتين من صور المساواة التي أقرهما التشريع الإسلامي مع اختلاف
الصورة التطبيقية في كل منهما؛ الصورة الأولى جاءت على لسان أم المؤمنين أم سلمة،
وهي تتساءل عن المساواة في الجزاء الأخروي مقابل نفس العمل أو السلوك، وكان الحديث
هنا عن قضية الهجرة التي اشتركت فيها النساء مع الرجال، وكانت السيدة أم سلمة تريد
نصاً صريحاً في هذه المسألة، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم.
فقد روى الترمذي
في «جامعه» عن رجل من ولد أم سلمة عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: يا رسول الله، لا
أسمع الله ذكر النساء في الهجرة، فأنزل الله تعالى: (أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم
مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ) (آل عمران: 195)، لتقرر حقيقة المساواة في الجزاء الأخروي بشكل صريح ولا
تترك لمجرد القياس العقلي والمنطقي فقط.
اقرأ أيضاً: اليوم العالمي للمرأة.. رؤية إسلامية
الصورة الثانية
من صور المساواة في الأجر الأخروي، وإن اختلفت طبيعة الأعمال هي الصورة التي
رسمتها حديث وافدة النساء والحديث وإن كان ضعيفاً من حيث الإسناد، فإنه يشهد له من
حيث قوة المعنى كثير من الأمور يأتي على رأسها قضية العدالة والمساواة التي هي إحدى
ركائز الدين، أخرج البيهقي عن أسماء بنت يزيد الأنصارية أنها أتت النبي صلى الله
عليه وسلم وهو بين أصحابه فقالت: بأبي أنت وأمي، إني وافدة النساء إليك، وأعلم
نفسي -لك الفداء- أنه ما من امرأة كائنة في شرق ولا غرب سمعت بمخرجي هذا إلا وهي
على مثل رأيي، إن الله بعثك بالحق إلى الرجال والنساء فآمنا بك وبإلهك الذي أرسلك،
وإنا معشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم، ومقضى شهواتكم، وحاملات أولادكم،
وإنكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجمعة والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز،
والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، وإن الرجل منكم إذا خرج حاجاً
أو معتمراً أو مرابطاً حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا لكم أثوابكم، وربينا لكم
أموالكم، فما نشارككم في الأجر يا رسول الله؟
فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه بوجهه كله ثم قال: «هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مُساءلتها في أمر دينها من هذه؟»، فقالوا: يا رسول الله، ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا؟ فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليها ثم قال لها: «انصرفي أيتها المرأة، وأعلمي من خلفك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها، وطلبها مرضاته، واتباعها موافقته، يعدل ذلك كله»؛ فأدبرت المرأة وهي تهلل وتكبر استبشاراً.
الاحتفاء
بالمرأة
الحديث عن
المساواة بين الرجل والمرأة في الجزاء الأخروي والاحتفاء به في الفلسفة الإسلامية،
لا يعني بالتأكيد أي صورة من صور المظلومية أو عدم العدالة في التفاصيل الدنيوية
تماماً، كما ورد في حديث وافدة النساء الذي قام على فكرة تقسيم الأدوار الطبيعية
بما يسهل على كل جنس القيام بدوره، وفي الوقت ذاته يشترك الجنسان سوياً في
المساواة في الجزاء الأخروي، وهي الفكرة التي لا تلقى رواجاً بالطبع بين المنظمات
النسوية التي لا تحتفي بالمرأة إلا في صورتها الفردانية وفي نطاق حدود الأمور
الدنيوية فحسب ووفق آلية المساواة الحرفية والمطلقة.
اقرأ أيضاً: النسوية الراديكالية.. مشروع لمعاداة الرجل واستئصال الأسرة
ففي مارس
الجاري، شهر الاحتفاء بالمرأة عالمياً، نجد الاحتفاء بسيدة؛ لأنها تقود شاحنة نقل
ثقيل، أو الاحتفاء بسيدة؛ لأنها أصبحت قبطان باخرة تجارية ضخمة، وهكذا أصبح
المقياس الوحيد للاحتفاء بالمرأة قدرتها على أن تقوم بعمل متساوٍ مع الرجل.
وكلما كان العمل
موغلاً في الغرابة أو القسوة أو الإجهاد البدني، أو الأهم عدم القبول المجتمعي فهو
العمل الأكثر احتفاء وأهمية وفقاً للمؤسسات النسوية والشخصيات النسوية المؤثرة بل
ووفقاً للمؤسسات الأممية التي أصبحت صدى يعكس ما يدور من أفكار تطرحها الفلسفات
والمؤسسات النسوية ثم يعاد صياغتها في قوانين ملزمة وشبه ملزمة لنا، وتستخدم كل
وسائل القوة الناعمة وغير الناعمة لإقحامها في عقولنا.
اقرأ أيضاً: المرأة.. بين تجار السياسة ومأساة الواقع
لقد تضافرت الدراما وصناعة السينما وقوانين الأسرة لرسم صورة واحدة للاحتفاء بالمرأة؛ صورة واحدة ذهنية مرتبطة بفكرة الفردانية والمساواة المطلقة، وهي الصورة التي تقف على طرف النقيض من الاحتفاء بالمرأة وفقاً للفلسفة الإسلامية التي أطلقت لها مطلق المساواة في الجزاء الأخروي، الذي هو جوهر الدين، وفي الوقت ذاته راعت العدالة في الأمور الدنيوية بما ييسر عليها هي أولاً حياتها، ولا يكلفها ما لا تطيق، وهذا هو فارق الرؤية بين فلسفتين.