الاستعانة بالأعداء.. دروس التاريخ التي لا ترحم

من عجيب التجارب التاريخية في العالم أن تتشابه دروسها، وأن تنتظم سُننها، ثم لا تكون الإفادة من تلكم الدروس، وهاته السنن على نحو مأمول، حتى تشكك بعض المفكرين في جدوى التاريخ نفسه!
وعلى ذلك، فإن
قصص خيانات الحكام، وممالأتهم أعداء أممهم على حساب مصالحها، ومقدساتها؛ ما تزال
تترا دون كبير فائدة ترجى، ولم يكن التاريخ الإسلامي براء من ذلك، ولا معصوماً.
ففي كتب تاريخنا
صفحات عار طويت، دفعت الأمة أثمانها غالية، ومضى أصحابها إلى مهاوي الخيانة،
فأصبحوا مثلاً للغابرين!
من ذلك أن شاور،
وزير الفاطميين (العبيديين) بمصر، أرسل يستنجد بالصليبيين، مرة في صراعاته مع
منافسيه، ومرة بسبب مخاوفه من رغبة نور الدين محمود فيها، ولما أرسل إليه شيركوه،
قائد جيش نور الدين، يعرض عليه التحالف معه ضد الفرنجة، ويقسم أن يسحب جيشه بعد
هزيمتهم، قتل شاور رسول شيركوه إليه، وقال: «ما هؤلاء بالفرنج؛ هؤلاء الفرج!».
ومن ذلك أن الصالح
إسماعيل، الأمير الصبي الذي آلت إليه مملكة نور الدين، أرسل يستعين بالصليبيين ضد
صلاح الدين، ويطلق لهم مقابل ذلك سراح عدد من كبار أمرائهم، كانوا في سجن نور
الدين، ويدفع جزية قدرها 20 ألف دينار، ويسلم بعض البلاد إليهم، في مقابل طرد
الصليبيين صلاح الدين من دمشق؛ فتوالت غاراتهم عليه.
ومن ذلك أن
الكامل محمد بن الملك العادل استعان بالإمبراطور فردريك الثاني ضد أخيه المعظم
عيسى؛ ونازل له عن السيادة على بيت المقدس، بل أمر المؤذنين بعدم إقامة الأذان مدة
إقامة فردريك بها؛ ما أثار استياء فردريك نفسه؛ فاشتد الإنكار على الملك الكامل،
وكثرت الشناعات عليه في سائر الأقطار.
وتبقى وصمة
خيانة الوزير ابن العلقمي صارخة في التاريخ، حيث دفعه تعصبه الطائفي، وقصر باعه
السياسي إلى الاتفاق مع التتار على الاستيلاء على بغداد، وإنهاء الخلافة العباسية
بها سنة 656هـ.
وربما كان عصر
ملوك الطوائف في الأندلس من أشد عصور تاريخنا اتضاعًا، وأجلاها في صور الخيانة
سوءًا، فقد انقسمت الأندلس بعد انهيار الدولة الأموية بها سنة 422هـ إلى نحو 22
دويلة، على كل منها أمير، هاجسه الأكبر أن يتوسع على حساب أضرابه، وإن اقتضى الأمر
الاستعانة بأعداء الأمة والدين.
ويكاد يكون سقوط
طليطلة بيد ألفونسو ملك قشتالة الحدث الأكبر في كوارث تلك الفترة، والنموذج
المتكرر الذي -بالرغم من فداحته- غاب درسه البليغ.
فقد أمضى
ألفونسو السادس ملك ليون عدة أشهر لاجئًا سياسيًا في طليطلة، يستجير بملكها القادر
بن ذي النون، فأجاره، وكان يسمُر معه فيحدثه عن حصانة مدينته، ومنعتها، ومواطن
القوة والضعف في حضونها، حتى إذا عاد ألفونسو إلى مملكته؛ بدأ يعد العدة للاستيلاء
على المدينة التي آوته.
كان ضعف القادر
بن ذي النون يغري جيرانه بقضم ما استطاعوا من مملكته، فاستعان ضدهم بصديقه القديم
ألفونسو، الذي اشترط دفع أموال طائلة، والتنازل عن عدة حصون مهمة، فما توانَ
القادر عن إجابة طلبه، مما أدى إلى ثورة أهل طليطلة عليه سنة 472هـ، فاستصرخ
القادر صديقه ألفونسو فأعانه، واسترد ملكه سنة 474هـ، ونكّل بالثائرين عليه، إلا
أن ألفونسو سال لعابه أمام ثروات طليطلة، وأهمية موقعها، وضعف حاكمها، فضم إليه
الشيء بعد الشيء من أراضيها، حتى ضرب عليها الحصار 9 أشهر سنة 477هـ، فاستسلمت أول
العام التالي.
ولما استنجد أهل
طليطلة بالمتوكل بن الأفطس أمير بطليوس؛ واستعد لنجدتها؛ تحرك المعتمد بن عباد
أمير إشبيلية لمهاجمة أراضيه فنكل عن عونها، وتركها لقدرها المحتوم، وكان المعتمد
قد سارع بدفع مزيد من الجزية لألفونسو مقابل تعهده ألا يغزو أراضي إشبيلية، وألا
يُنجد المعتمدُ طليطلة حين يحاصرها ألفونسو!
وفي المراحل
الأخيرة لحصار ألفونسو طليطلة قابل وفد من أهلها المستعرب سنندو وزير ألفونسو،
وأخبروه أنهم لن يسلموا المدينة لأنهم ينتظرون الغوث من بعض إخوانهم ملوك الطوائف،
فأنّبهم سنندو، وسخر منهم، واستدعى من خيامه سفراء ملوك الطوائف جميعًا، وقد قدموا
يخطبون ودَّه، ويتحفونه بالهدايا والأموال، فخرج زعماء طليطلة من عنده يتعثرون في
أذيالهم، وقد أيسوا من الصمود، فلم تمض سوى ثلاثة أيام حتى استسلمت المدينة.
أما القادر بن
ذي النون فقد قرّ في معسكر ألفونسو -على حد وصف ابن بسام مؤرخ الأندلس- «مخفور
الذمة، مذال الحرمة، ليس دونه باب، ولا دون حَرَمه ستر، ولا حجاب، حدثني من رآه
يومئذ بتلك الحال وبيده اصطرلاب، يرصد فيه في أي وقت يرحل، وقد طاف به النصارى
والمسلمون؛ أولئك يضحكون من فعله، وهؤلاء يتعجبون من جهله».
ولم ينزجر ابن
ذي النون بسوء صنيعه، بل مضى ليُخضع بلنسية تحت سيطرة ألفونسو، ليعيد صنع مأساة
جديدة، إذ عاث جند قشتالة فيها فسادًا، فثار عليهم أهلها، وحانت لحظة القصاص من
القادر جزاء خيانته، فقتله الثائرون، وطيف برأسه في المدينة في 23 رمضان 485هـ.
وبعد سقوط
طليطلة بادر ملوك الطوائف جميعهم تقريبًا إلى بعث رسلهم إلى ألفونسو لتهنئته،
وبعثوا إليه هداياهم، وأنهَوا إليه رغبتهم في أن يشاركهم في بلادهم! وأن يكونوا
عمالاً بها، وجباة يجبون إليه أموالها، على أن ألفونسو لم يكتم احتقاره لهم، من
ذلك أن حسام الدولة بن رزين أمير «السهلة» نهض إلى لقاء ألفونسو بنفسه مثقلاً
بالهدايا إليه؛ وكان ألفونسو يتلهَّى بمشاهدة قرد يطفر أمامه، فقال ألفونسو لحسام
الدولة ساخرًا: «جزيتك على هديتك بهذا القرد»، فلم يشعر الأمير المسلم بأدنى
غضاضة، ورأى في هذه الهدية دليل الود؛ وأصبح يراها جُنَّته مما كان يحذر من
ألفونسو من خلعه من ولايته"، ويعلق ابن عذارى على ذلك بقوله: «فكان من ضعف
عقله يفخر بذلك القرد على ملوك الأندلس، فانظر إلى هذا السخف وهذا الخذلان»!
لم يكن يخفى على
عقلاء المسلمين أن الموقف عصيب، وأن سقوط طليطلة نذير السقوط النهائي، فبادر جماعة
منهم إلى الحث على الاتحاد واجتماع الكلمة إزاء الخطر المشترك، ونهض القاضي أبو
الوليد الباجي (ت 474هـ) يجوب الأندلس حاثًّا أهلها على الوحدة، وترك التصارع،
والاستعانة بالعدو، فلم يجدِ أذنًا صاغية، حتى أنقذ الله الأندلس بعبور المرابطين
إليها، فأمدوا من عمر الإسلام بها قرونًا.