الاغتصاب.. سلاح كسر المرأة في الحروب

كلثوم باسعيد

29 يناير 2025

8899

إن الغريزة المركبة في الإنسان لتدفعه دفعًا للبحث عمن يجد معه متعته وراحته؛ فيحدث بينهما السكن والمودة، وبتلك الغريزة لا ينقطع النسل البشري؛ حيث إن الإنسان قد يأتي عليه وقت فيطفئ نار شهوته مع من لا يحب.

وللإنسان وقت يصبر فيه على غريزته وشهوته يطول أو يقصر، وبعد ذلك قد يقع في الحرام، أو يحوم حوله طارقًا أبواب الحرام دون الولوج فيه، والمعصوم من عصمه الله كما عصم يوسف عليه السلام.

والإنسان قد لا يستقر به المقام في بلده؛ فيحمل عصا التسيار ويضرب في الأرض لمقاصد شتى وأهداف متنوعة؛ فقد يسافر للعمل والارتزاق، أو طلبًا للعلم، أو هروبًا من مخوف.

والاشتراك في الحروب نوع من أنواع الضرب في الأرض والسفر، وقد يكون وسيلة للارتزاق، وفي تلك الأثناء يُحرم الإنسان من إلفه وأنيسه؛ فيحدث اضطراب نفسي وعاطفي، ونوع من أنواع الكبت، ويبحث عن أي طريق لتنفيس هذا الكبت، أو إزالته.

وقد وقع الصحابة أثناء غزوهم لشيء من هذا القبيل؛ فحدثتهم نفوسهم بالاختصاء لقطع تلك الشهوة من نفوسهم؛ فعَنْ عَبْدِاللَّهِ بن مسعود قَالَ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ مَعَنَا نِسَاءٌ فَقُلْنَا: أَلاَ نَخْتَصِي؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ(1).

وكان هناك حل آخر يتمثل في قضية السبي الذي كان معروفًا قديمًا، الذي أحله بشروط، ولفئات معينة؛ فللمقاتلة من الأعداء القتل والأسر، وللنساء والأطفال السبي، والسبي شكل من أشكال الاسترقاق، لكنه باب من أبواب التمتع الحلال المأذون به؛ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ «حُنَيْنٍ» بَعَثَ جَيْشًا إِلَى أَوْطَاسٍ، فَلَقُوا عَدُوًّا فَقَاتَلُوهُمْ، فَظَهَرُوا عَلَيْهِمْ، وَأَصَابُوا لَهُمْ سَبَايَا، فَكَأَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَحَرَّجُوا مِنْ غِشْيَانِهِنَّ مِنْ أَجْلِ أَزْوَاجِهِنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) (النساء: 24)، أَيْ: فَهُنَّ لَكُمْ حَلاَلٌ إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ(2).

فالتمتع لا يكون إلا بعد استبراء الرحم، بالحيض أو وضع الحمل.

لكن الحروب ليس بالضرورة أن تتمخض عن انتصارات؛ فقد تحدث انكسارات، أو تطول فترات المواجهة، ولا يتم الحسم، والجنود بحاجة لأهلهم، وأهلهم بحاجة إليهم، فلا بد من حل؛ فكان الحل ألا يطول عمل الجيوش مدة تقترب من نصف العام.

كما هو معروف عن عمر بعد سماعه لامرأة تظهر اللوعة على فراق زوجها فسأل ابنته أم المؤمنين حفصة فقال: كم تشتاق المرأة إلى زوجها؟ فأشارت ثلاثة أشهر، وإلا فأربعة، فكتب عمر: «ألا تحبس الجيوش فوق أربعة أشهر»(3).

وعليه، فقد كانت المقاصد من تلك الأعمال مرعية؛ فحفظ الدين والنفس والعرض كان قائمًا.

لكن أطل علينا زمان تخلت فيه فئة من المحاربين عن الأخلاق والقيم والمروءة، وضاعت المقاصد والكليات الشرعية، فالسبي كان محكومًا بضوابط شرعية، بل كانت المصالح متبادلة بين الطرفين؛ فالمقاتل يحفظ دينه ونفسه، والمسبية تكون في رعاية المسلم وتحت جناحه وحمايته، فتُسلم وهي تحته، ويستولدها فيحررها وأولادها.

لكن جاء من لا خلاق لهم واستغلوا ضعف النساء في الحروب، فاعتدوا عليهن لا للمتعة واللذة، بل للانتقام وكسر الكبرياء والإذلال، وبعد هذا الاعتداء من الفرد أو المجموع لا يرون غضاضة في قتل المغتصبة أمام أولادها وزوجها.

وهذا واقع في تلك الأمة، فلا يحدث هذا من الغير تجاه نسائنا، بل ممن هم محسوبون على تلك الأمة؛ وقد أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أربع فتن تكون بعدي؛ الأولى: تسفك فيها الدماء، والثانية: يستحل فيها الدماء والأموال، والثالثة: يستحل فيها الدماء والأموال والفروج، والرابعة: عمياء صماء تعرك فيها أمتي عرك الأديم»(4).

فالفتن تتعاظم جيلاً من بعد جيل وقرنًا من بعد قرن؛ فقد حدث التقاتل بين المسلمين منذ العهد الأول للأمة، لكن حرمات الأعراض كانت مصانة، لكن الآن ضاعت الدماء والأموال ولم يكتفوا بذلك، بل ذهبوا للمستضعفين الذين لا حول لهم ولا قوة واعتدوا عليهم لا لرغبة وشهوة، بل انتقامًا وإهانة وتلويثًا للشرف الذي يعدمه هؤلاء المعتدون.

فأصبح الاغتصاب أو التلويح به سلاحًا في يد جنود الظلمة يذبحون به المروءة والشرف والإسلام على مذبح الغدر والخيانة، وهذا الاغتصاب يصيب المرأة بأضرار نفسية وجسدية واجتماعية بليغة قد لا تتعافى منها مع مرور الزمن، وتبقى ندبة في القلب لا تبرأ، وكسر المرأة قد يترتب عليه كسر الجنود الذين ينتمون لها، أو يُبقي عجلة الانتقام والانتقام المتبادل دائرة.

وسقوط هؤلاء الجنود في تلك الهوة السحيقة، واستخدامهم لهذا السلاح لكسر المرأة، بدلاً من التحلي بالشهامة والمروءة في التخاصم والعداوة وصمة في جبينهم وجبين قادتهم، ومن يبرر لهم ذلك، والعاقبة لهم في الدنيا والآخرة وخيمة.

والأرقام مرعبة؛ ففي السودان مثلاً هناك حوالي 7 ملايين امرأة وفتاة تعرضن «لخطر العنف الجنسي، والعنف القائم على النوع الاجتماعي»(5)، والأسوأ من ذلك أن 37% من هذا العنف الجنسي كان ضحاياه أطفالاً(6).

والأمر من قبل كان في سورية في عهد نظام بشار الأسد البائد؛ حيث إن الفتيات فوق سن الثانية عشرة قد تعرضن للعنف الجنسي، ومن تعرضن للاغتصاب بالآلاف، والأرقام غير دقيقة؛ لأن جرائم الشرف تمثل عارًا، وهناك الكثيرات ممن يخفن من الاعتراف بوقوعهن في ذلك؛ خشية الافتضاح.

يقول جودي وليامز، من الحملة الدولية لوقف الاغتصاب والعنف: «مع كل حرب أو صراع، نتحرك نحن كمجتمع دولي ونقول: لا للاغتصاب الجماعي، لكن ما حدث في سورية أمر لا يُصدق! خاصة وأن عدد الضحايا غير محدود»(7).

ولا بد من الدعم الطبي والنفسي لهؤلاء من خلال الرعاية الصحية العاجلة للضحايا لعلاج الأذى الجسدي، وتقديم العلاج الوقائي ضد الأمراض المنقولة جنسيًّا، كما تحتاج الأمهات الحوامل إلى رعاية طبية متكاملة تشمل التغذية والمكملات الغذائية.

فيما يشمل الدعم النفسي تقديم العلاج النفسي المكثف للتعامل مع الصدمة الناتجة عن الاغتصاب، وتوفير مجموعات دعم للضحايا لمساعدتهن في التعامل مع التجربة الصادمة؛ إذ تؤكد جهات مختلفة رصد الكثير من الآثار النفسية التي قد تتضاعف في حال عدم التعامل معها بشكل مناسب.

وبعض النساء وصلن إلى مرحلة من اليأس دفعتهن إلى محاولة الانتحار(8)، إلى جانب وجود الفتاوى الشرعية في تلك النازلة حول إمكانية إجهاض الأجنة من عدمها.

مع ضرورة العمل من خلال المنظمات والجمعيات والهيئات على تتبع من يثبت إقدامه على تلك الجريمة لتقديمهم للعدالة، وإنزال أشد العقوبات بهم؛ ليكونوا عبرة لغيرهم ممن تسوِّل لهم نفوسهم الإقدام على تلك الجريمة، ولكي يعرفوا أنهم ليسوا بمنأى عن العقوبة، وأن سلاح الاغتصاب الذي استخدموه لكسر المرأة هو ذاته السلاح الذي فيه هلاك مرتكبيه.

 

 

 

 

 

 

_____________________

(1) أخرجه البخاري في التفسير، باب «لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ»، ح(4615).

(2) أخرجه مسلم في الرضاع، باب «جَوَازِ وَطْءِ الْمَسْبِيَّةِ بَعْدَ الاِسْتِبْرَاءِ وَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا بِالسَّبْيِ»، ح(1456).

(3) أخرجه عبدالرزاق في المصنف (7/ 151).

(4) الفتن لنعيم بن حماد، (1/67).

(5) https://www.aljazeera.net/news/2024/7/13/%D8%B6%D8%AD%D8%A7%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%BA%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%A8-%D8%AC%D8%B1%D8%AD-%D9%85%D9%81%D8%AA%D9%88%D8%AD-%D9%81%D9%8A-%D8%AD%D8%B1%D8%A8.

(6) المرجع السابق.

(7) https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%BA%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%A8_%D8%A3%D8%AB%D9%86%D8%A7%D8%A1_%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8_%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%87%D9%84%D9%8A%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9.

(8) https://www.aljazeera.net/news/2024/7/13/%D8%B6%D8%AD%D8%A7%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%BA%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%A8-%D8%AC%D8%B1%D8%AD-%D9%85%D9%81%D8%AA%D9%88%D8%AD-%D9%81%D9%8A-%D8%AD%D8%B1%D8%A8.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة