الاندماج.. بين نظرة الجاليات المسلمة والنخب الغربية

أخذ اندماج
الجاليات العربية والمسلمة في المجتمعات الأوروبية حيزاً كبيراً من الجدل والنقاش
بين المهتمين والمعنيين، وقد بذلت الجاليات والمنظمات الإسلامية جهداً كبيراً في
التأصيل لهذه الفكرة منذ حوالي 40 عاماً على أقل تقدير، حتى وصل الأمر إلى نوع من
جلد الذات لعدم تحقيق الفكرة بالشكل المطلوب.
كانت خلاصة
الأفكار أن الجاليات المسلمة يمكن أن تحقق اندماجاً يشبه ذوبان السكر في الشاي؛ أي
أن تندمج في المجتمعات الأوروبية مع بقاء خصوصياتها وثقافتها.
الإشكالية
الكبرى في الموضوع هي أن الحكومات والنخب الأوروبية التي تنظّر لموضوع الاندماج لم
تحدد حتى اليوم رؤيتها الشاملة للفكرة وحدودها، فبعض تلك النخب تتحدث عن ذوبان
ثقافي تام للمهاجرين في المجتمعات الأوروبية وتخلّيهم التام عن ثقافتهم وأخلاقهم
وقيمهم، هذه الرؤية ليست الوحيدة في القارة العجوز، لكنها أصبحت هي السائدة، خاصة
بعد صعود التيار اليميني الشعبوي، ووصوله إلى حكم دول أوروبية عديدة.
المعاملة العنصرية
ثمة إشكالية
أخرى في الموضوع؛ وهي أن آلاف المهاجرين –خاصة من الجيل الثاني والثالث– انخرطوا
في العمل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في المجتمعات الغربية، متغلبين على مصاعب
كثيرة، أقلها المعاملة العنصرية ومبدأ «لن تتحكموا في بلادنا أيها الغرباء».
هؤلاء حققوا
معنى الاندماج الإيجابي الذي يروَّج له من جهة المهاجرين، على الأقل، لكن هذا كله
يتجاهله الإعلام الغربي تماماً، ولا تزال أصوات النخب الأوروبية تنادي بأنّ
المسلمين غير قابلين بطبيعتهم للاندماج.
نخب أوروبية تطالب بذوبان تام للمهاجرين
في مجتمعاتهم والتخلي عن الدين والمبادئ والتحول إلى الثقافة الغربية
وتطالب نخبٌ
أوروبية اليوم بانسلاخ وذوبان تام للمهاجرين في مجتمعاتهم؛ ما يعني التخلي عن
الدين والمبادئ والثقافة والتحول إلى الثقافة الغربية دون نقاش.
إضافةً لما
ذُكر، فإن تحريض الإعلام الغربي على الجاليات ونشطائها ومؤسساتها تحوّلَ إلى
ظاهرةٍ شبه يومية تركز على كل أمرٍ سلبي، فيما لا تحظى الاعتداءات على أبناء
الجاليات ومؤسساتها بتغطية تذكر، هذا الكيل بمكيالين يعمّق الهوة بين تلك الجاليات
والمجتمعات التي تعيش فيها، وتجعل مسألة الاندماج مسألة نظرية بعيدة عن الواقع.
ولا يخفى على
متابع نتيجة هذه السياسات والتطورات، ففي بلاد مثل فرنسا أو السويد، تنسحب أسرٌ
مهاجرة كثيرة من تلك البلاد إلى بلاد أوروبية أو إسلامية، بعدما ضاقت بها السبل
وخسرت أطفالها أو كادت تخسرهم.
في المقابل، من
الإنصاف أن نذكر أن مهاجرين كثيرين يتعاملون مع البلاد الأوروبية بمنطق البقرة
الحلوب، وأن كثيرين منهم يريدون الحصول على مساعدات صناديق الضمان الاجتماعي دون
القيام بأي واجب مقابل ذلك، بل إن منهم من يعيش عالة على تلك المجتمعات، وقد حملت
موجاتُ اللجوء الأخيرة كثيراً من هذه النماذج السلبية.
تناقضات وغرائب في ملف الاندماج
هناك عدة أمور
تحتاج إلى شرح وتوضيح في مسألة الاندماج، كما هو مطروح في أيامنا هذه، منها:
1- أن معظم
الدول التي تتحدث عن إدماج الأجانب في ثقافتها، تقيم مدارس ومراكز ثقافية لها في
الخارج لتحفظ مواطنيها من الذوبان في الثقافات الأخرى وتعلمهم لغة بلدهم وثقافتها،
إضافة إلى نشر لغتها وثقافتها في الخارج.
من العجيب أن الداعين إلى الاندماج من مؤسسات
إسلامية هم الذين يلاحَقون من السلطات الأوروبية في كل مناسبة!
ويكفي إجراء
مقارنة متواضعة بين المدارس الغربية في بلاد المسلمين، وجهود الجاليات المسلمة في
إقامة مدارس لأبنائها في بلاد الغرب، فالمدارس الغربية أشبه بالقلاع التي لا يمكن
الحديث عنها ولا مناقشة برامجها، فيما تُعامَل مدارس الجاليات المسلمة في أوروبا
بالتشكيك والتهويل وتحاصَر ويضيّق عليها بشكلٍ ممنهج، كما يجري في فرنسا والسويد
مثلاً، ونحن هنا نتحدث عن مدارس تتوجه إلى أبناء الجاليات العربية والمسلمة، لا
إلى أبناء البلد ولا إلى غير المسلمين.
2- الكلام
المتداول أن المسلمين لا يندمجون في المجتمعات الغربية ينافي الواقع، فقد خاض آلاف
المسلمين تجارب العمل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وهؤلاء يتم تجاهلهم في
الإعلام الغربي، بل تُوَجَّهُ إليهم سهام التشكيك بزعم أنهم يخترقون المجتمع بهدف
تبديله وتغييره والسيطرة عليه.
3- الملاحظ أن
الحديث الغربي عن الاندماج يوجَّه إلى الجاليات المسلمة من أصول عربية أو أفريقية،
أو إلى جاليات من شرق أوروبا، حصراً، فيما لا يتحدث أحدٌ عن اندماج جاليات أخرى
مثل الأمريكية –في حال وُجدت- أو الصينية أو الهندية، والأسباب غير مفهومة.
4- من أعجب الأمور في هذا السياق أن الذين يدعون إلى الاندماج
من أفراد ومؤسسات إسلامية، هم الذين يتعرضون للطرد والملاحقات من السلطات
الأوروبية في كل مناسبة! فمع كل إشكال يقوم به أي مسلم غير متزن، تتعرض
الجاليات والمؤسسات المسالِمة لإرهاب السلطات وقمعها، وتُغلق مؤسسات قضت سنوات في
الدعاية للاندماج والترويج له.
5- هناك استعداد
نخبوي ومجتمعي لتقبل فئات معينة من المسلمين، لا سيما أصحاب الأموال والسياح، فلا
مشكلة كبيرة في تقبل هؤلاء بمظاهرهم الإسلامية مثل الحجاب أو حتى النقاب، طالما أن
هؤلاء ينفقون أموالهم في هذه البلاد.
6- يتم التركيز
على الحجاب كمظهر فرض للقيم الإسلامية على المجتمعات الغربية، ويروّج على أنه «شعار
ديني»؛ أي أنه مظهر من مظاهر فرض الإسلام في الغرب، ورفض الاندماج، فيما الحجاب
جزء من لباس المرأة المسلمة، وليس له علاقة بدين الآخر.
بكلام آخر،
المرأة المسلمة ترتدي الحجاب أمام الرجال الأجانب من غير محارمها بغض النظر عن
ديانتهم، ولا فرق في ذلك بين رجل مسلم ورجل غير مسلم، وكذلك فالمرأة المسلمة ترتدي
حجابها في بلاد المسلمين وغيرها، لا في أوروبا وحدها، فجوهر الحجاب ليس فرض
الإسلام على غير المسلمين، كما يزعم محاربوه، بل هو ستر للمسلمة أمام الرجال
الأجانب من جميع الأديان، فيما لا مشكلة في عدم ارتدائه أمام امرأة أخرى، ولو كانت
غير مسلمة.
ضرورة مراجعة ملف الاندماج وفقاً لمبادئ
المساواة وإنهاء المعايير المزدوجة في التعامل مع الجاليات المختلفة
7- لماذا لا
يُكتفى بمطالبة الجاليات الإسلامية والعربية باحترام القوانين وعدم تجاوزها، شأنها
شأن المواطنين الآخرين، بدلاً من مطالبتها بتقديم براهين على انتمائها إلى
مجتمعها؟ ولماذا تطالب تلك الجاليات -إضافة إلى احترام القوانين وعدم مخالفتها-
بتقديم أدلة مواطَنة أخرى، مثل الاندماج والولاء، وهي غير مطلوبة من أي جهة أخرى؟
8- لا تزال فئات
كثيرة من الأوروبيين أنفسهم تشكّك في البناء الأوروبي الموحّد وتسعى إلى تفكيكه،
كما ترى نفسها غير معنية باحترام السلطات المحلية، بل ترى أن لها الحق في تحديها
وهدمها، مثل الفوضويين ومعادي السلطات، والغريب أن هؤلاء مقبولون سياسة واجتماعاً
في أوروبا، ويعامَلون كتيّار شعبي أو جهة سياسية لها رأيها ووزنها، أو كخصم سياسي
في نهاية المطاف، ولا يوجَّه إليها أيُّ برنامج اندماج واستقطاب.
9- لماذا ليست
هناك مطالبات بالاندماج إلا في البلاد الأوروبية، وتجاه فئات معينة بالذات؟ بينما
يمكن أن تسافر إلى البلاد العربية والآسيوية والأفريقية وتستقر فيها، فلا تجد من
يتحدث عن هذا المصطلح الذي أصبح قريباً من الشوفينية؟
خلاصة القول: إنه
يجب مراجعة ملف الاندماج والشعارات التي تُطرح في شأنه بشكل جذري عميق، وفقاً
لمبادئ المساواة بين الناس، وعدم تحميل الجاليات ما لا تطيق، وإنهاء المعايير
المزدوجة في التعامل مع الجاليات المختلفة، ومهم في هذا السياق أن توقف الجاليات
جلد الذات، وأن تطالب باحترام ثقافتها وخصوصياتها، كما هي مطالبة باحترام ثقافة
البلد وخصوصياته.
اقرأ
أيضاً:
"الإسلاموفوبيا" في الغرب.. الأسباب والآثار
التعليم الديني
للأقليات المسلمة في العالم الحديث.. الواقع والمأمول (1)