البطل الإنكشاري.. حسن ألوباتلي
رفاق الموت
عشية يوم الفتح يجلس المرابطون متحلقين حول أسوار المدينة، يتسامرون فيما بينهم، تطوف حولهم الأماني أن تكون القسطنطينية غنيمتهم غداً، يلفهم الأمل يبثه فيهم مفعماً قول النبي صلى الله عليه وسلم بأن خير الأمير أميرهم، وجيشهم خير الجيوش، إن أتم الله الفتح على أيديهم، وكانت كل الصدور مترعة بحب التضحية يحدو أصحابها أمل أن يكونوا في عداد الشهداء غداً أو بعد غد.
في ثلة
للمجاهدين، يجلس البطل الإنكشاري حسن أورباتلي ورفاقه من حوله يتذاكرون ما كان من
منازلات مع أهل المدينة وما سوف يكون، والحماسة تنضح في حكائهم، وبينما هم في حديثهم
الحماسي، إذ يعلو صوت فيه بعض وهن: إن لأهل هذه المدينة سلاسل بها رؤوس كلاليب محماة
بالنار تتخطف بالموت من دنا، وزيتاً مغلياً إن أصاب أحداً أذاب لحمه من بين عظامه!
سمع الجالسون ما
سمعوا، فسقط في أيديهم ووجموا، هنالك قام البطل مغضباً لينتهر القائل: ويحك،
أتخوفنا بالذي جئنا لأجله؟! فوالله ما خرجنا إلا ابتغاء الشهادة في سبيل الله، وإني
عازم على الموت غداً، فمن كانت له عزمة مثل عزمتي فليبايعني على الموت.
ومد يده باسطاً
إياها، فقام إليه الرجال وقد نفضوا عنهم غبار قول الواهن ذي الخور، ووضعوا أيديهم
على يده مبايعين، فطأطأ صاحب القول صوب الأرض من خجل وسكت.
وفي اليوم
التالي، نشب القتال وطيساً كعادة كل يوم، واختلطت السهام في سماء المعركة مختلفة
المرامي، هنا ينهض الفارس الإنكشاري حاملاً راية المسلمين وبصحبته رفاق الموت،
وتخير أعسر مواطن دفاع العدو (سور توب كابي)، وتقدم نحوه والسهام تمرق من حوله
مسعورة تبتغي الموت وهو بها لا يبالي ولا رفاقه بها يبالون، حتى بلغ السور وعليه
نصب سلمه الخشبي وتسلقه مسرعاً لا تضيره تلك النشاب التي اعتورت من كل جانب، حتى
اعتلى السور ودماؤه تقطر من كل بدنه.
وألقى براية
الروم على الأرض ونصب راية المسلمين والجميع ينظرونه من هنا وها هنا، وانطلق مكبراً
والرفاق من حوله يكبرون، فانهمرت عليه وعلى أصحابه السهام والحراب، وبعضها كان
نارياً حارقاً حتى سقط شهيداً أعلى سور المدينة.
سقط وبقيت
الراية التي نصبها عالية ترفرف ناعية له البطولة والفداء، وداعية جيش الموحدين
للتقدم والعطاء، فاستجابت لها الجموع في هدير يسيل بالقوة تجرف كل عات في طريقها.
وتكاثرت تلك
الجموع على الأسوار تصدح بالتكبير يصدع الصخور في الجدران الراسيات، وتجاوبت الأرض
معهم بوجيب تهتز به تحت أقدام المشركين؛ فاضطربت بالرعب أقدامهم، ومادت بهم الأرض،
وزاغت منهم الأبصار، وارتجفت القلوب؛ فخارت العزائم، فولوا هاربين بالهزيمة، تلحق
بهم فلول متناثرات، وقطعان هاربة تتخبط بغير غاية على أرض الذل والانكسار، وانساب
أهل الحق في خلال المدينة فاتحين، تعلو وجوههم البشارة، تكسوها نضارة، تنطق
بخيريتهم التي وسمهم بها رسول الحق محمد صلى الله عليه وسلم.
منطق الجسور الشجاع
أقول لها وقد
طارت شَعَاعًا * من الأبطال ويحك لن تُراعي
فإنك إن سألت
بقاء يوم * على الأجل الذي لك لن تُطاعي
فصبرًا في مجال
الموت صبرًا * فما نيل الخلود بمُستُطاع
ذلك منطق الجسور
الشجاع؛ أن الموت آت في موعده المضروب، والنفس لا زيادة لها في الدنيا بعده يوماً
من الدهر ولو ألحت في طلب الزيادة، ذلك منطق يجعل صاحبه لا يولي الموت خوفاً وليس
له منه وجل ولا فرق، بل قبول وطلب، يرجو ثواب الآخرة ليتحقق له المجد في الأولى،
فليهنك المجد يا حسن في الدنيا والرجاء أن تكون روحك في حواصل طير خضر تسرح في الجنة
حيث تشاء.
بالإقدام يعرف الرجال
إن إقدام أحد
الرجال في غير هيبة من موت أو بلاء له بالغ الأثر الجميل على قلوب المرافقين، فبإقدامه
يزول التردد من الصدور، ويتبعثر الخوف من القلوب، وتفور حمية الحق تدفع بالجميع
إلى سوح المعمعة في إقدام عجيب، أو تدفع بهم للصدع بالحق في وجوه الطغاة المتكبرين،
فيهلك صاحبها عن بيّنة ليكون بهلكته سيد الشهداء برفقة حمزة، ولتبقى كلمته تتردد
في أخلاد قوم واهنين فتثير فيهم نخوة الكرامة فيثورون بها ثورة قد تجتال الطاغين
عن عروش القهر التي ملكوها بحديدهم والنار، ويجرفهم سيل الغضب فلا يبقى لهم على
أثر إلا في مجمع نفايات التاريخ.
إن خلائق السفهاء تعدي
مهما يكن من علو
همة للجمع فلن يخلو هذا الجمع من ذي وهن ضعيف، أو من ذي خوف جبان، ومثل هذا قد يبث
خلال الناس وهنه وخوفه، وقد يوهن بقوله بعض العزمات، أو يثني شيئاً من الهمم، ولن
يضار الجمع الكريم بمثله، ما دام أكثر الناس مؤمنين، فهذا أحدهم يتسلل بين صفوف
خير الجيوش، ومن قبله كان مثله في كل صفوف المؤمنين، فما وهنوا لوجوده ولا ضعفوا،
فهو وأضرابه بقعة مقحلة في واحة فسيحة فيحاء.
وعلى قلة
الواهنين والضعفاء، لا يصح أن يترك لهم الحبل على غاربه ليقولوا ما يفت في العزائم
ويثبط الهمم، بل الصواب أن يمنع وأن يقيد، فإن قال أحدهم قولته اختلاساً، فليكن من
السامعين رد يعفي على أثر ما قال، كما فعل بطلنا حسن، وعلى من ولي أمر الناس أن
يتحسب لمثل ذاك الصنف من الناس، وألا يجعل لهم مقاماً بينهم منه يبثون الوهن
ويفتون في العزائم.
في مدرسة حمزة
لقد ضحى بطل
القسطنطينية حسن وما عايش لذة النصر ولا أصاب من غنمها لعاعة من الدنيا، يحذو في فعاله
حذو الكبار من قبله حمزة، ومصعب، وأنس بن النضر.. وغيرهم كثر ممن بذلوا الروح
ليظهر الحق، ورحلوا قبل أن يبصروا نور الصبح الذي أشرق بدمائهم، فحسن وسلفه من
الرجال قد تربوا في مدرسة الإسلام، وهي مدرسة تربي بنيها على السعي الصادق والعطاء
المخلص دون انتظار لعائد يعود عليهم أو حتى نصر يبتهجون بحصوله.
وبفتحها تحققت النبوءة
ومهما ادلهمت
خطوب الكرب على تلك الأمة الطاهرة، فلسوف يبقى موعود نبيها مشعلًا لوهج الأمل يبرق
في صدور بنيها، أن لها في مآلها النصر والعز والشرف، وإن طال رسوفها في أصفاد
الضعف وقيود الوهن، ولقد تحقق لها النصر المبين بفتح عظيم لأعتى بلاد الدنيا على
يد الفاتح محمد تحقيقاً لنبوءة سيد المرسلين، وسوف تبلغ دعوتها دعوة الحق ما بلغ
الليل والنهار، بعز عزيز أو بذل ذليل، كما أخبر المعصوم، الصادق المصدوق، عليه
صلوات الله وتسليماته، ولينتظروا إنا منتظرون.